في البدء، كانت الكلمة…
ولو كان من حق اللغة ان تختار بكرها، لاختارت الحرية باكورة قاموسها…
حين انطلقنا في الشارع نرددها، كنا نستعيد حاسة النطق من سجّانها … لم نكن فرحين بالكلمة قدر نشوتنا بصوتنا، ولم نكن خائفين على حناجرنا، بقدر خوفنا من العودة إلى حرمانية النطق بها…
كنت أسير في شوارع اللاذقية، وأرى أبي في الناصية، على الرصيف، في الشارع نفسه… لم أتوقف عن سؤال نفسي: لو كان هشام الصوفي على قيد الحياة، هل كان سيسير معي، يده بيدي، مردداً حــــــــــرية !!! أم كان سيشدّني من يدي ويسجنني في بيته حتى لا يفقدني، او أفقده؟
السؤال الذي لم يرسى على جواب، يعرف اليوم، بل و يعرف جيداً أن أبي، ما كان ليسكت عن الظلم بعد ان اختار بعض أبناء وطنه الموت غرقاً كاحتمال نجاة…
بعد خمس سنوات، بت أعرف ان أبي لو بقي حياً لاختار ان يموت وهو واقف على قدميه… ما كان ليرضى ان يختار الموت انحناءاً، وهو من علمني ان أرفع رأسي لأني أبن شريف وحفيد شيخ جليل… فالتباهي بالشرف يتعارض مع العيش من دون كرامة، وأولى ابجديات الكرامة: الموت والعين بالعين… والحياة للحياة…
في سنة أولى ثورة: تعلمت ان أكون نفسي..
في سنة ثانية ثورة: تعلمت ان ادافع عن حقي، بأن أكون نفسي..
في سنة ثالثة ثورة: تعلمت ان اتجاهل المشككين بنفسي..
في سنة رابعة ثورة: تعلمت ان أترك بعضاً من نفسي، و ألتحق بالآخرين، لأعرف ما يعني ان تقتل نفسٌ من غير حق.. اتهمت بالطائفية من ألف باء احتجاجي” لماذا نحن من نقتل” إلى ياء تساؤلي” إلى متى سنرضى بأن نكون الموتى في مسلسل اسمه “سورية الأسد”..
اما في سنة خامسة ثورة: فتعلمت، ان كل ما حدث قبل الــ 2011 كان حفلة تنكرية ابطالها أغبى ممثلين عرفتهم الدراما السورية… الأقنعة لم تسقط، الأقنعة أُسقطت على أيدي أصحابها في عز النهار، مدّوا أيديهم وانتشلوها، والمبرر: شو بدنا من هالشغلة… القصة طويلة…
من كان يحتفل بالحرية، تبرأ منها..
ومن كان يحتفي بميلاد الخلاص، قام بوأد اللحظة التي فكر بها ان يستعيد حقه كآدمي…. ومع ذلك، بقيت أرى أبي قربي، يمسك يدي… يهمس لي أن أتابع الصياح… فالصوت في بلد الخرسان ملك ، وانا ابن رجل، قاوم التيار وأصرّ ان يبقى حفيد الشيخ الجليل الذي يكرهه اللصوص كما يكرهون في السر أرواحهم التي سقطت في عسل الدبابير…خمس سنوات، لم اقتنع يوماً بالسكوت (وسادة المعتاد على العيش قرب الحيط، ويارب السترة)..
خمس سنوات، وانا اخسر يوماً بعد يوم أصدقاء حارتي، ومدينتي، ومدرستي وجامعتي و اقاربي..
لم أقترب منهم يوماً، لكنهم رفضوا ان يقترب صديقاً لهم من بلاط الأسد… كان بإمكانهم ان يختاروا الصمت على القطيعة… ولكن القطيعة تبقيهم على ذمة القطيع، وألف كلمة قطيع، ولا كلمة حر..
كان بإمكانهم ألا يتباروا بتخويني، فهم أكثر العارفين بمنشأي، ولكن كيف سيحصلون على نصيبهم من بورصة “الجلمقة” لو التزموا الصمت وأنصفوني… منهم من قال: اكيد مدفوع من جهة ما، ومنهم من أكّد أنى أقبض ثمن كلامي…. وأقرب الأقارب وأحبهم إلي، تأسف لآني لا انتمى لجهة ما، من مبدأ: على القليلة كان قبض مصاري…
خمس سنوات هي عمر ميلادي… وما سبقها، كنت أي أحد، لكني لم أكن نفسي… ولو خيّر لي ان اختار بين النزول إلى الشارع والهتاف بكلمة “حرية” أو البقاء في البيت، أشرب فنجان قهوة في البلكون المطل على البحر، لهرعت مثل البرق وهتفت “حرية”، بكل بساطة الكلمة وعمق الهتاف…
خمس سنوات… وان أرى امي، تجلس قرب نافذتها الصغيرة وتقول ” لو بقي بعمري يوم يا زياد، رجعني على بيتي”…. امي التي تعيش على امل العودة، لبيتها، لا تعرف ان وطاويط الأسد دخلوا بيتها، بيتها الذي يحمل اسمها وانتهكوا حرمة غيابها، وموت أبي..
في 28 أيلول\ 2015 دخلت جماعة من أمن الدولة الى الحارة، طوّقتها، وداهمت بيت هشام الصوفي، غيرت الاقفال… ووضعت شمع احمر بحجة: وضع ممتلكات زياد الصوفي تحت اليد، مع ان ملكية البيت تعود إلى أمي..
في 30 أيلول 2015 دخل رجال الامن من جديد، ومعهم مختار الحارة الأطوز و الذي قال: كل شيء يعود لبيت الصوفي، بات ملك الدولة..
في 5 تشرين اول 2015 احتل بيت هشام الصوفي رجلان… ومنذ ذلك اليوم، تتم سرقة بيت ابي يومياً، في الليل تفك الأغراض والعفش، وفي الفجر: تنزل المسروقات بكميات قليلة وعلى دفعات..
وحتى اليوم، امي تحلم بالعودة والموت في بيتها… وأبي، ما عاد طيفاً، بل صار حقيقة… اليوم بت اعرف انه كان سيرافقني إلى الشارع ويبارك لابنه البكر صوته ويضم صوته إلى صوته ويردد معي حرية … حرية…. حرية…
وأنا، ما زلت، رغم كل ما خسرت، وما خسرت عائلتي بسببي مصرٌ على ان الله حق، وسورية حق… وما مات حق وراءه مطالب، ولو بقيتُ المطالب الوحيد بحق السوري بأن يعيش في وطنه مرفوع الرأس، سأختار ان أكون الاستثناء أو حتى النشاز، المهم ألا أعود إلى من كنته قبل السنوات الخمسة ، اشرب وآكل وأنام..
وحين ستكبر ابنتي، سأخبرها كما كان أبي يخبرني، ” عيش حياتك وراسك مرفوع، ابوك بعمرو ما طعماكون من مال حرام”… وانتي يا بنتي… عيشي وراسك مرفوع، منشان كلمة حرية خسروا بيت الصوفي كل شيء بيملكوه ، بس لما بينظروا بالمراية، عالقليلة ما بينزلوا راسون لتحت خجلاً ، و بيقولوا تفووو بسرّهم..