تحمل قضية الانتخابات المحلية التركية أبعادا عديدة، كما هو الحال بالنسبة للقضايا السياسية والاجتماعية والأمنية.
فبعد مظاهرة متنزه غيزي التي شهدتها تركيا، صيف عام 2013، والاتهامات الأخيرة التي تلاحق إردوغان، والتي نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، مثل «تويتر» و«فيسبوك» و«يوتيوب»، حتى الأيام القليلة التي سبقت الانتخابات، توقع الجميع عدم قدرة إردوغان وحزبه على تحقيق الفوز في الانتخابات. حتى إن عضوا في حكومة إردوغان عبّر عن مخاوفه بشأن مستقبل إردوغان وحزبه، مشيرا إلى أن حزب العدالة والتنمية سيخسر الانتخابات.
لكن إردوغان خالف كل التوقعات، وفاز في الانتخابات ثانية، وشعرنا بنبرة النصر في خطاباته الأخيرة، خاصة ذلك الخطاب الذي ألقاه في أنقره، والذي قال فيه: «خابت مساعي الذين هاجموا تركيا. لقد دعمتم رئيس الوزراء. أشكركم من عميق قلبي. لقد حميتم نضال تركيا الجديدة في الاستقلال».
قراءة ما بين سطور خطاب إردوغان تكشف بوضوح عن رغبته في أن يكون سلطان تركيا الحديثة. هذا الشعور بالرغبة في السلطة يتضح جليا في لجوئه في بعض الأحيان، إلى استخدام قبضة يده في الخطاب أكثر من لسانه. كما تؤكد خطاباته على اعتقاده أنه تحول الآن إلى رمز لتركيا والاستقلال، وأن خصومه يعملون ضد تركيا واستقلالها.
استغل إردوغان الخطاب ليرسل تهديدا واضحا إلى خصومه، قائلا إن عليهم دفع ثمن أفعالهم. وأنا أريد التركيز على هذا التصريح، والفكرة الكامنة خلفه. فعلى سبيل المثال، جاء في خطاب إردوغان في أنقرة: «سوف ندخل كهوفهم، وسوف يدفعون الثمن».
بلغ إردوغان في الوقت الراهن ذروة عمله السياسي واستعاد قوته. لكن التساؤل الأكبر الذي يطرأ في هذه المرحلة هو: إذا استغل رجل (رئيس الوزراء) مكانته وهدد خصومه، فهل يعني ذلك أنه رجل بالغ القوة؟ وبعبارة أخرى، هل يمكن تفسير الحديث عن السلطة، واستخدامها لاستبعاد مجموعات وأحزاب المعارضة، إشارة إلى القوة؟
أعتقد أن السلطة تمتلك هوية متناقضة، فعندما يجري الإسراف في استخدام السلطة، تتغير هويتها، وتتحول إلى ضعف، وكما يقال، فكل شيء جاوز حده انقلب إلى ضده.
من بين النقاط الأخرى التي ينبغي وضعها في الاعتبار قصر النظر سيئ السمعة للسياسيين، الذين لا يرون أبعد من تحت أقدامهم. ويرى نزار قباني أنهم فشلوا في استشراف المستقبل، ومن ثم يرفضون التخلي عن مواقعهم، فهم يفضلون عدم التفكير بشأن العواقب غير المرغوبة وغير المقصودة وتبعات الأحداث.
عندما ينظر إردوغان إلى الأفراد الذين يهتفون: «تركيا فخورة بك»، «لا تركع»، و«الله أكبر»، يبعث هذا الدعم برسائل خاطئة إلى رجل مثل إردوغان، فهذا السبب السري الذي يقف خلف الديكتاتورية والاستبداد.
ما النتيجة المتوقعة؟ ستنقسم الدولة في النهاية إلى قطبين، سيكون هناك استقطاب كبير في البلاد، عندما يركز جانب واحد في الأغلب على الإسلام والقيم الدينية.
ما أحاول قوله هنا، هو أنني أستشفّ إخفاقا كبيرا لتركيا في كلمة إردوغان. كيف يمكن لإردوغان إدارة تركيا إذا دعم فقط نصف الدولة؟ وعلى الرغم من أن الانتخابات الماضية لم تكن انتخابات برلمانية، فإن رؤية النتائج تعطي انطباعا بشأن وجهات النظر حول النواحي الاجتماعية والسياسية للشعب التركي.
وبحسب هذا التقييم السياسي الأخير، فاز إردوغان بنسبة 45 في المائة من الأصوات. لكن تركيا لا تزال تشهد انقساما عميقا ومجتمعا تسوده حالة من الاستقطاب، وهذه مشكلة تهدد مستقبل البلاد. وبعبارة أخرى، إذا نظرنا إلى الأفق البعيد لمستقبل تركيا، ففي جوهر هذا الانتصار ضعف تركيا، كدولة وكأمة. وبعبارة أخرى، هذا الانتصار إذا أخذ في الاعتبار، له وجهان؛ الأول هو انتصار لإردوغان وحزب العدالة والتنمية، والثاني هو الاستقطاب العميق في تركيا، الذي بات أشبه بمباراة سيخسر فيها كل الأطراف، بمن فيهم حزب العدالة والتنمية.
وعندما كنت في بيروت، ألقي كلمة في بيت الحكمة، قال أحد الحضور إن قوة لبنان تكمن في ضعفه! وكان من الصعب بالنسبة لي قبول وجهة النظر هذه، لكن، على العكس، يمكنني القول إن قوة إردوغان وحزب العدالة والتنمية هي قوة تركيا.
فقوة تركيا الحقيقية ستنبع من الأمة بأكملها، بما في ذلك غولن وأتباعه، والقوميون والعلمانيون.
وعندما قال إردوغان إنه سيفتش الكهوف بحثا عن خصومه، ذكّرني ذلك بولاية بوش الثانية، حيث اعتاد القول إن أميركا ستفتش كهوف أفغانستان وتورا بورا بحثا عن بن لادن و«القاعدة».
وعندما استخدم إردوغان هذا النوع من اللغة، لم يكن من الصعب توقع ما سيحدث في الشوارع بين الأفراد والشباب على وجه الخصوص.
يقول الشاعر الإيراني الكبير، سعدي شيراز: «إذا أكل الملك التفاح من حديقة الرعية فسوف يستأصل وكلاؤه كل أشجار التفاح في الحدائق». ولدينا تجربة مريرة في إيران قبل عدة سنوات، عندما أفتى العديد من رجال الدين بمخالفة بعض الكتاب والفنانين للقيم الإسلامية، وهو تسبب في مقتل العديد من الكتاب في البلاد.
وقد كان القتلة المتسلسلون في إيران في خريف عام 1998 عنوانا شهيرا في بلادنا. فقد حدثت سلسلة من عمليات القتل والاختفاء القسري التي طالت مفكرين إيرانيين معارضين انتقدوا نظام الجمهورية الإسلامية.
وقد قيل في مثلنا العربي: «الناس على دين ملوكهم»، وهو ما يعني أن الأفراد يحاولون تبرير سلوكهم ونمط حياتهم حسب لغة وأفعال ملوكهم.
وعلى الرغم من فوز إردوغان بالانتخابات المحلية، فإنه فشل في توحيد البلاد وتعزيز تضامنه. وبطبيعة الحال، فإن إردوغان ليس وحده في ذلك، ففي أماكن أخرى من العالم، هناك أشخاص مثل إردوغان الذين يشاطرونه المعتقدات نفسها، ويتحدثون مستخدمين الأدبيات نفسها.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقدم النموذج الأسمى، فعندما دخل مكة فاتحا، سمع أحد صحابته يقول: اليوم يوم الملحمة. فقال: اليوم يوم المرحمة.
نقلا عن الشرق الاوسط