يعتقد رهط غير قليل من المراقبين أن أميركا ضعفت في الوطن العربي، وأنها تنسحب منه تاركة مكانها لروسيا، التي تتقدم في كل مكان، وحتى في إسرائيل، التي قال وزير خارجيتها بأنها تبحث اليوم عن حليف آخر غير واشنطن.
وقد طرحت فكرة «الانسحاب الأميركي» في لقاء «صير بني ياس» في الإمارات العربية المتحدة، الذي يحضره في العادة خبراء استراتيجيون، وساسة مخضرمون، وصناع رأي دوليون- وجنرالات لعبوا أدوارا مهمة في سياسات أميركا حيال المنطقة العربية، ورؤساء وزارات ووزراء لطالما قرروا سياسات بلدانهم. وقد صرف المناقشون وقتا طويلا لنفي الفكرة أو لإثباتها، بما يؤكد جدية النظرة السائدة إليها، التي ترى أن واشنطن انكفأت على نفسها وشرعت تمارس سياسات عزلة وابتعاد عن العالم.
وكانت فكرة الانسحاب الأميركي قد بدأت مع تولي باراك أوباما السلطة الرئاسية، وقرار تفكيك الوجود الأميركي في العراق، ثم في أفغانستان، الذي وجد قبولا لدى جنرالات وزارة الدفاع وقادة المخابرات، الذين تعرفوا فيها على خطة أميركية قديمة سميت في حينه «الفتنمة»، قامت على جعل الفيتناميين يقتتلون فيما بينهم، على أن تدير أميركا صراعهم، لتوفير حياة جنودها ودفع غيرهم إلى الموت بدلا عنهم وتحت إشرافهم، وثلم مقاومة الشعب الأميركي لحروب بلاده الخارجية، التي ستبدو عندئذ كأعمال عسكرية محدودة وليست حروبا منظمة وعدوانية. وبما أن هذا النمط من الحرب يتطلب بقاء «خبراء» أميركيين في البلدان المعنية، فإن هؤلاء لم ينسحبوا مع الجيش من العراق ولن ينسحبوا من أفغانستان، حيث سيبقى لهم فيها تسع قواعد وعشرة آلاف جندي.
ابتعدت أميركا عن التدخل المباشر في سوريا، بعد أن ضمنت أمرين؛ أولا: تحويل الصراع الدائر فيها إلى بؤرة توتر شديد الاحتدام، جرت إليها خصومها وأصدقاءها، بما أن الصراع لا يحتدم إلا بقدر ما تنخرط فيه أطراف متناقضة ومتعادية. وثانيا: رسمت الخطوط الحمراء لأدوار الآخرين، وخاصة منهم روسيا وإيران، لأنها أرادت للصراع أن يكون حاسما في تحديد صورة المنطقة المستقبلية، انطلاقا من استراتيجية تقوم على طي صفحة العرب من الآن فصاعدا، ووضعهم في مواجهة حال من البلبلة والقلق تضمر انفجارات محتملة مختلفة الأشكال: اجتماعية وسياسية وعسكرية واقتصادية، والاستعانة بقوى إقليمية للتحكم في الدول العربية، أهمها بطبيعة الحال إيران وإسرائيل، الدولتان المدججتان بالسلاح، اللتان تمارسان سياسات متقاربة تلبي مصلحتهما المشتركة في إضعاف العرب واختراقهم وتهميش دورهم وحضورهم المحلي والإقليمي والدولي.
وقد أظهرت واشنطن قدرتها على إلزام الآخرين بما رسمته لهم، وعلى التدخل لفرض مصالحها على الجميع باعتبارها مصالح حاكمة، فأعلنت أنها ستضرب نظام دمشق، وما هي إلا أيام قليلة حتى أعلن الروس انسحابهم من المواجهة واستعدادهم لتسليمها سلاح النظام الكيماوي. واليوم تتوج أميركا انتصاراتها بإلغاء حق إيران في تقرير سياساتها النووية، وبلي ذراعها وإجبارها على قبول تخصيب محدود لما تمتلكه من يورانيوم، وإخضاع منشآتها النووية لرقابة دولية مفاجئة ودائمة، وتجميد بناء مرفق آراك للماء الثقيل، وفتح الباب أمام تدخلات خارجية دائمة في شؤون طهران وسياساتها… إلخ، مقابل تخفيف جزئي للعقوبات على إيران، التي صرفت مائتي مليار دولار على برنامجها النووي، ويعدها اتفاق اليوم برد أقل من خمسة مليارات من أموالها المجمدة في الغرب. وتشير تقديرات ودلائل متنوعة إلى أن واشنطن قد تعزز دور طهران المعادي للعرب، وأن من المحتمل موافقة البيت الأبيض على تقاسم وظيفي بين صهاينة تل أبيب وملالي قم، يهمش دور العرب ويعمل تحت إشراف أميركا، التي ستطبق عندئذ نمطا جديدا من سياسات إدارة العالم عن بعد، يتمسك أوباما بها لكونها لا تكلف أميركا شيئا، وتتكفل في الوقت نفسه بتحقيق مصالحها خيرا من أي تدخل عسكري مباشر، وتضمن هيمنة إسرائيل على جوارها إلى زمن جد طويل. وسمت سياسات أميركا العربية والشرق أوسطية بالغباء، مع أنها أكثر سياسات واشنطن نجاحا، التي عرفتها منطقتنا والعالم، ذلك أنها ما أن تدخلت في الثورة السورية حتى عملت على تحويلها إلى مقتلة القرن، وجرت إليها كل من أرادت توريطهم فيها، وأدارتها إلى أن أوصلت المنطقة إلى شفا جرف هار يمكن أن يأخذها إلى اقتتال سني – شيعي دولي النطاق، أو إلى أزمات متعاقبة سيعزز العجز عن السيطرة عليها رضوخها للقوتين الأجنبيتين الساعيتين إلى تقويض العالم العربي: إسرائيل وإيران، أو إلى تركها تتخبط في اقتتال أصولي – سلطوي متفجر، يستمر إلى أن يدمر الحضر والمدر، على غرار ما يجري في سوريا.باتفاق الكيماوي والنووي تقع مفاتيح وأقدار المنطقة الاستراتيجية والتكتيكية في يد واشنطن. من الآن فصاعدا: الويل كل الويل لمن يغلط في قراءة ما يحدث، والقيام بكل الخطوات المؤلمة الضرورية لمواجهته!
منقول عن الشرف الاوسط