حلّت ساعة تقاسم مناطق النفوذ والمصالح في سورية وبرز وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف مهندساً بارعاً يملك مفاتيح الدار وخريطة سورية الجديدة.
خريطة لافروف ليست خريطة رسم الحدود على نسق سايكس– بيكو. إنها ترتكز على قاعدة الوصاية الروسية على سورية بمباركة وشراكة أميركية. مع تطمينات عملية وفعلية لإسرائيل عنوانها الجولان، ونفوذٍ مضمون لإيران وتركيا في صفقة التوازنات العسكرية والمقايضات، وضمان مواقع حكم ذاتي للأكراد، وتحويل سورية إلى دولة شبه منزوعة السلاح ومنزوعة القرار السيادي. تقسيم سمي هذا أو تقاسم نفوذ، إن سورية الأمس ولّت والكلام عن انتصار بشار الأسد يتوقف عند استخدامه واستخدام نفسه في حرب على إرهاب أتى باستدعاء النظام السوري له وباستثمار خارجي لا أحد بريء منه على الإطلاق.
وللتأكيد، إن تقويض حزب البعث الحاكم واضمحلاله التدريجي سينعكس على النظام وعلى الرئيس لأن منطق حزب البعث هو الاستفراد بالسلطة والحكم، وهذا دخل خانة «كان في الزمان».
كل هذا يُسعد الشريك الصامت الموافق تماماً على تحويل سورية إلى وصاية روسية توزّع الأراضي والممرات والطرقات الاقليمية، فأميركا تريد سورية «منزوعة الأسنان». فوداعاً للدولة المركزية في سورية لأن استمرار تلك المركزية سيجعل سورية الغد غير مستقرة، وهذا ما لا تتمناه الشراكة الروسية– الأميركية– الأوروبية– التركية– الإيرانية– الإسرائيلية. ذلك أن خريطة لافروف أعادت تعريف الاستقرار على أساس توزيع الحصص كما ارتآها لافروف. وكل ذلك الكلام المسرَّب عن استكمال واشنطن استراتيجية لاحتواء النفوذ في سورية والعراق واليمن لكبح «أذى إيران»، إنما هو كلام معسول للاستهلاك العربي لا غير.
الديبلوماسية الأميركية، المدنية والعسكرية، تتشاور مع الديبلوماسية الروسية دوماً وراء الكواليس في كل الملفات الإقليمية – وهذا ليس مستغرباً سوى أن الكثير من تلك المشاورات يبقى هذه الأيام سراً مطبقاً على حلفاء الاثنين في منطقة الشرق الأوسط وأكثرهم حلفاء للولايات المتحدة.
فلا شيء تغيّر جذرياً في التفاهمات الأميركية– الروسية في شأن النزاعات في المنطقة العربية مع استلام الرئيس دونالد ترامب الرئاسة الأميركية. فهو سار على خطى سلفه باراك أوباما فعلياً وعملياً، إنما صعَّد لفظياً وبوعود فارغة ما لبث أن تراجع عنها لأسباب «براغماتية»– أي من أجل المصالح الأميركية كما تراها واشنطن. والذين يعتقدون أن الكونغرس الأميركي ســـيحتج ويعترض ويعرقل سياسات ترامب التهادنية فعلياً مع إيران، إنما يعتمد سياسة التمنيات لا غير. فأولوية الكونغرس الأميركي هي إسرائيل، وإسرائيل راضية.
إسرائيل راضية لأن الصفقات والتفاهمات ضمنت لها هضبة الجولان كحزام أمني وكأراضٍ لها كأمر واقع، بدلاً من بقائها أرضاً سورية محتلة. قد يقال إن الأمم المتحدة وقراراتها وقوة فك الاشتباك (اندوف) هي الفاصل الشرعي الذي يرفض ضم إسرائيل للجولان منذ احتلالها له قبل 32 سنة. لكن خريطة لافروف ضمنت لإسرائيل جبهة محيَّدة بضمانات روسية وأميركية ودولية كما طمأنتها بأنه لن تكون هناك مطالبة سورية جدية لاستعادة الجولان، لأن سورية القديمة زالت وسورية الجديدة باتت مربعات نفوذ روسي– أميركي– تركي– إيراني بلا قيادة مركزية تُذكر. انها سورية المُكبّلة التي تم حذفها من المعادلة الاستراتيجية مع إسرائيل بعد حذف مصر تفاوضياً عبر «كامب ديفيد» والعراق عسكرياً عبر حرب الرئيس جورج دبليو بوش في العراق. إنها سورية شبه المنزوعة السلاح والأسنان.
تركيا وجدت في العلاقة مع روسيا سلَّم الانقاذ. لذلك قايضت حلب باكراً وهي تدرك تماماً أن حلب كان المفصل الحاسم في مستقبل سورية والمعارضة فيها. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين روّض نظيره التركي رجب طيب أردوغان، وتمكّن من إخضاعه للتخلي الجزئي عن رعايته لمشروع «الإخوان المسلمين»، وأردوغان رضخ أقلّه تكتيكياً ومرحلياً. فهو وجد في علاقته مع روسيا أهم سلاح له مع أوروبا الرافضة لانتمائه إليها والتي تكاد تكون نادمة على القبول بعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) لولا كونها براغماتية تنظر إلى موازين الفوائد والخسارة.
تلاقى الرجلان في موسكو وأنقرة على الكراهية لـ «الناتو»– أحدهما معتبراً هذا الحلف عدوّاً لدوداً له والآخر يراه شرّاً لا بد منه. المستشارة الألمانية أنغيلا مركل احتجّت على قيام تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي بعقد صفقة سلاح هذا الأسبوع مع روسيا على أساس أن التناقض هذا ليس أبداً نظرياً.
لم تحتج مركل على الرعاية الروسية لصفقة المقايضة التركية– الإيرانية في الأراضي السورية، والتي انطوت على سيطرة تركية عسكرية في الشمال السوري وعلى ضمان جغرافيا الممر الإيراني في الأراضي السورية الأساسي لاستراتيجية النفوذ الإيراني في الهلال الممتد من طهران إلى بيروت عبر أراضي العراق وسورية. فهي راعية على طريقتها لإيران ومشاريعها الإقليمية باسم صيانة الاتفاق النووي مع إيران من أي اهتزاز مهما تجاوزت طهران في أي نطاق آخر.
والآن، حصلت تركيا على تواجدها عسكرياً شمال سورية الى أجلٍ غير مسمّى بموافقة روسية– أميركية. أما ماذا ستفعل تركيا بـ «الدواعش» الذين يُصدَّرون إليها، فهذا موضوع آخر. وماذا سيفعل أردوغان بمشروع «الإخوان المسلمين» علماً بأن روسيا تصنع علاقة أساسية لها مع مصر، فهذا يستحق التدقيق والقراءة المعمقة لاحقاً. في الوقت الحاضر، تحرص موسكو على الدور المصري في سورية لكنها تتحدث بلغة الميدان– وفي هذه اللغة أولويتها تركية وإيرانية.
حالياً، ترعى روسيا مقايضة تركية– إيرانية إذ تتمتع تركيا بسيطرتها في الشمال السوري وتسيطر إيران على جنوب العاصمة السورية بما يضمن لها أمرين: المشاركة في تقويض استقلالية القرار في أية حكومة سورية في دمشق أولاً. الممر الضروري في الاستراتيجية الإيرانية ثانياً. لعل موسكو تنفذ وعود اخلاء سورية من الميليشيات انما بعد زوال «داعش» وبعد تكبيل المعارضة السورية بكل أطيافها وتحييدها. فإزالة الميليشيات التابعة لطهران شيء، وضمان نتائج الاستثمارات الإيرانية في سورية شيء آخر.
وواشنطن لا تمانع. كل التوعّد والتهديد الأميركي الإيراني إنما هو من قبيل فولكلور كبح الغايات الإيرانية والتوسع الإيراني في الجغرافيا العربية. فهذا «آخر هم» للأميركيين، في نهاية المطاف. كل تلك المهاترات والتهديدات اللفظية محسوبة. فلن تمزّق إدارة ترامب الاتفاق النووي مع إيران مهما صعّدت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، ولن يوقف «التحالف الدولي» الذي تقوده واشنطن استيلاء إيران على الجغرافيا التي يتم تحريرها من «داعش»، لا في سورية ولا في العراق. لن تكون هناك خطوات أميركية لاحتواء نفوذ إيران في سورية والعراق، بعد استكمال العمليات العسكرية ضد «داعش»، فعندئذٍ يكون قد فات الأوان. فلقد وعدت إدارة ترامب وأخلّت بالوعود. أما استراتيجيتها الموعودة فإنما هي لرفع العتب والاستغلال.
الغياب الأميركي، بل التغيب المتعمد، ترك الساحة مفتوحة لروسيا لرسم خريطة جديدة لسورية، وأبعد. لقد أغلقت واشنطن صفحة التنافس الاستراتيجي والاقتصادي والأمني مع موسكو وقررت أن الزمن الراهن يسمح بصفقات التفاهم والاقتسام في كافة أنحاء المنطقة العربية.
في العراق، حيث التقسيم بات حتمياً، كلاهما يعارض لفظياً التسرع الكردي إلى الاستفتاء، وثم تقسم العراق كأمر واقع. فعلياً، كلاهما يدرك تماماً أن تقسيم العراق ليس فقط لصالح الكرد الذين يطالبون بدولة مستقلة، وإنما هو أيضاً لمصلحة إيران التي تجتاح الأراضي العراقية حتماً لتنفيذ مشروع الهلال الفارسي الذي يسمى أيضاً– الهلال الشيعي- كلاهما يعرف تماماً أن
ما سيتبقى في العراق للسُنَّة هو عبارة عن خسارة كبرى لهم، لأن بالأمس كانوا أصحاب القرار والسيادة، وهم سيصبحون دويلة خالية من النفوذ والقدرات والموارد. كلاهما يقرأ جيداً الوهن العربي والأولويات الخليجية، وهما يعدان بجديد ما في الأولوية الخليجية، وهي اليمن.
في اليمن تلتقي الرغبة الأميركية والروسية لمساعدة السعودية على الانتهاء من أزمة اليمن، لكنهما تعرفان تماماً خريطة الطريق الى الحل، ولا تسلكانها. فالعنوان الرئيسي لحل أزمة اليمن هو طهران، لكن واشنطن وموسكو لا يقصدانه عمداً مع أنهما تدركان أن إيران لن تتخلى عن بوابة مهمة لها إلى الحدود السعودية عبر الحوثيين. هنا أيضاً، تتكاثر الوعود اللفظية وتقل الإجراءات الفعلية.
جولة سيرغي لافروف على العواصم الأميركية، والمشاورات الإيرانية والتركية في عواصم الضامنين الثلاثة في سورية – روسيا وتركيا وإيران – تؤكد أن ساعة تقاسم النفوذ حلّت. الغياب العربي عنها مؤلم ومؤسف وشهادة على الوضع العربي المتشتت بامتياز. نعم، لقد توجه سيرغي لافروف الى العواصم العربية في جولة ما قبل الإعلان عن خريطته. ونعم لقد أفادنا علماً بأن عواصم عربية مهمة وافقت ودخلت طرفاً في المعادلات الجديدة.
إنما، في نهاية المطاف، إن سورية والعراق على وشك استبدال خريطة الأمس بخريطة جديدة– اسم الأولى سايكس بيكو واسم الثانية خريطة سيرغي لافروف.
راغدة درغام: المصدر الحياة اللندنية
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلامية
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :