أكرم هواس
قبل ايام تنفس الفزيائيون الصعداء لانهم حققوا بشكل او باخر اطروحة نظرية عمرها اكثر من اربعين سنة حول وجود جزيء اسمه هيجز يعطي الكتل الاخرى وزنها النوعي …. بكلام ان ان هذا الجزيء يعطي العناصر الاخرى وجودها المادي الملموس فيما يتعلق بدور هذه العناصر في مجمل النظريات الفيزياوية الاخرى و خاصة المتعلقة منها بمفهوم الانسان عن تكون الكون بعد ما سمي بالانفجار العظيم….!!
و بعيدا عن الفيزيائيين و فرحتهم بهذا الانجاز التاريخي…. يبرز السؤال الاهم… ما يمكن ان يلعبه هذا الاكتشاف العظيم في حياة الانسان العادي اليومية… هل اكتشفنا الله اخيرا… ام اكتشفنا… ان هذا الاله هيجز.. مانح الحياة… الذي انتظرناه عبر الاف و ربما ملايين السنين… هو اله عاجز تماما…. لانه انتظر اكثر منا ولم يستطع يوما ان يظهر نفسه لنا رغم صلوات الملايين من الناس… و هو صم بكم تماما لانه لم يصرخ حتى نسمع صوته و لم يسمع دعاء الناس و صلواتهم…. و هو عديم الاحساس بالمسؤولية تماما لانه لم يشعر باهات ملايين الناس من الظلم و الجوع و العطش…
و لكن رغم كل هذا… لابد ان نعترف بان الفكرة جميلة في حد ذاتها… اكتشاف اله مادي… او اكتشاف الطريق المادي الى الله… لان هيجز ما يزال غير معروفة اوصافه الدقيقة… اي ان التجربة التي جرت في سويسرا مؤخرا… لم تبين ماهية جزيء هيجز… هل هو مادة… ام انه طاقة لمادة ما مجهولة لحد الان؟؟… كما اننا لا نعرف اذا كان هذا الجزيء كائنا عاقلا… ام انه طاقة تتحرر من تدافع قوى اخرى باتجاهات متعاكسة مثل الرياح التي تتصادم سطوحها المختلقة فتولد أعاصيرا تشكل قوة دافعة للتغيير..؟؟؟
اقول انها فكرة جميلة… لانها ببساطة… تخاطب فينا ذاتنا…. و تتلمس خواطرنا و امنياتنا… و قبل هذا و ذاك تطفلنا و اشتياقنا لمعرفة انفسنا… كيف نشأت و كيف نشأ ما حولي؟؟… هذه الاسئلة شكلت اساس الدين و لكن ايضا اساس العلم و النهج المعرفي… نعم الله او الخالق ايا كانت التسمية… او القوة الدافعة الاولى… ظلت تشكل التحدي الاعظم امام الانسان… سواء سواء كان هذا الانسان من الشاكرين لمنحه الحياة… ام من الناقمين لتوريطه في شيء لم يكن له يد او رأي فيه… اما العلم الذي يحاول ان يستكشف الاسس المادية لكل شيء فقد طرح نظريات كثيرة و متعددة يختص قسم منها بنشوء الحياة و تطورها في الكائنات المختلفة و قسم اخر منها بنشوء الكون و تطوره… و حيث ان العلم يعتمد على اساسين متكاملين هما النظرية و التجربة فان العلماء يبذلون جهودا عظيمة و بنفس طويل كي يحققوا نظرياتهم تجريبيا…
و في هذا الاطار… بقيت بعض اللبنات الاساسية في هذه النظريات لم تتحقق بشكل واضح… ففي نظرية النشوء و الارتقاء بقيت حلقة مهمة مفقودة و هي الحلقة التي تربط بين القرد و الانسان… اما في نظرية الانفجار العظيم فقد ظلت معرفة القوة المانحة للحياة مفقودة و هذا ما عمل العلماء على اكتشافه تجريبيا… و يبدو انهم حققوا نجاحا… ولكن… لا نعرف بالضبط ما هو.. و اذا ادخلنا البعد الفلسفي في الموضوع فاننا نواجه اشكالية حقيقية لاننا لا نعرف ان كان هيجز مثل كل الاشياء الاخرى هي اشياء وجودية … ام انه مجرد انعكاس لتصوراتنا…. او بشكل ادق… الواقع الذي تخلقه تصوراتنا…هل نحن نقترب من الله … ام اننا نهرب الى فكرة الله في ذاتنا مرة اخرى.. كما فعلنا عند اول لحظة لاكتشافنا انفسنا؟؟
طبعا… العلاقة بين تصورنا عن الاشياء و الواقع الوجودي المادي لهذه الاشياء تشكل واحدة من الاشكاليات الفلسفية المهمة… لكني اعتقد كما ذكرت انفا بأن الفكرة جميلة لانها تتدغدغ احلام اليقظة فينا… و لان الفكرة… مهما كانت بسيطة… فانها لا تنبع من الفراغ… كما انها لا تتلاشى… بل تتطور و تتخذ اشكالا و طروحات مختلفة…فاننا لابد ان نجلس و ننتظر كما فعلنا…و نعيد انتاج افكارنا التي هي انعكاس لتأثيرات خارجة عن ارادتنا… سواء كانت هذه تأثيرات مثل الجوع و العطش و الحاجة الى الجنس… او اجتماعية ترتبط بعلاقاتنا مع ما يحيط بنا من بشر و كائانات اخرى…هذه التأثيرات قد تكون عوامل طبيعة مثل البرد و الحر و الكوارث و النعم… كما انها قد تكون نتيجة انفعالاتنا تجاه الاخرين… قد تكون حبا او كرها… ابتسامة او بغضا…فكرا عقلانيا ام غيره… نعم لان ما نسميه العقلانية او المصلحة هي نتيجة تفاعلنا مع حاجاتنا بما يتلائم مع الواقع المادي… و عليه فان التغيير الذي نعمل على ايجاده هو بلورة اليات تحقيق حاجاتنا… اي ان التغيير هو امتداد للفكر خارج اطار الذات لاننا عادة نطلب تغييرما حولنا اكثر من تغيير ذاتنا… بل في الحقيقة اننا لا نتغير الا بعد ان نرى التغيير في الاخرين و في البنى السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية من حولنا….. و عليه لابد ان ننتظر… ان كان اكتشاف هيجز سيغير شيئا… ام انه سيدفعنا مرة اخرى الى داخل ذاتنا..؟؟؟..
لابد ان نتذكر ان فكرة الله ولد فينا منذ ان وعى الانسان نفسه في واقع لم يستطع ان يهضمه… و هذه الفكرة تتجدد و تتخذ اشكالا متعددة قد يكون رفض الله احد معالمها… لان رفض وجدود الله لا يختلف كثيرا عن حقيقة الايمان به… فكلاهما يعبر عن الحاجة النفسية للانسان حتى و ان اتخذ الايمان و الرفض منطقتين متناقضتين في وعينا و منطقنا … العلاقة هنا وثيقة بين المنطق و تصوراتنا…. لان المنطق هو انما بلورة واقعية لتصوراتنا…و تصوراتنا هي محاولة تطورية ذهنية لاعطاء افكارنا بعدا ماديا وجوديا ملموسا…
و من هنا… فان وجود الاشياء… خارج اطار ذاتنا…. لا ترتبط بالضرورة بتصوراتنا عن هذه الاشياء… انا لا احاول ان ؤكد او انفي هذا الوجود… و لكني اركز فقط على العلاقة بين افكارنا و تصوراتنا و حاجاتنا… اريد ان اؤكد اننا رغم كل التقدم العلمي و الفلسفي الهائلين… ما زلنا نعيش حالة ميتافيزيقية استسلامية متأصلة و رهيبة… لاننا سرعان ما نستسلم لاي تطور و انجاز سواء باتجاه تأكيد وجود الله او عدمه… لاننا ببساطة نريد ان نتخلص من هذا العبئ الوجودي و هذا القلق التاريخي الذي يقض مضجعنا… شئنا أم أبينا… نريد ان نتخلص من الفكرة الاولية عن الذات و الله الذي يلازمنا في وعينا و في وعينا الباطن… و لكننا بهذا الاستسلام السريع للنتائج… سواء كنا مسرورين أم محبطين … فانما نؤكد الفكرة مرة اخرى و نلتصق بها اكثر و اكثر…. لاننا ما ما زلنا نعيش صدمة اللحظة… لحظة التعرف الى الذات التائهة في وجود لم نفهمه و لم نجد تبريرا له ابدا…
في التاريخ البشري… مرت لحظات كثيرة… اعتقد فيه الانسان انه قد توصل نهائيا الى معرفة الله… كما مرت لحظات اعتقد البعض ان فكرة الله قد انتفت… لكن سرعان تراجعت الامور… نما الشك من جديد… بوجودالله عند بعض المؤمنين… كما ان اسئلة جديدة برزت حول امكانية وجود الكون مصادفة أو باليات غير عاقلة…. الانسان ما يزال يواجه السؤال الازلي… من انا و لماذا؟؟…رغم ان بعض الفلسفات حاولت التهرب او الهروب الى الامام عن طريق طرح فرضيات شديدة المادية او شديدة العبثية…
تلك النظريات شديدة المادية ربطت نفسها بالعلم الذي لا يتعامل الا مع المادة التي لم تجد مؤشرات حول وجود الله يمكن التحقق منها… اما العبثية فانها حاولت رفض اسس و هدف الحياة ذاتها… لكن ظل الجميع بشكل او باخر يأملون الوصول الى لحظة الحقيقة علهم يجدوا جوابا لذلك السؤال السرمدي… من انا و لماذا انا.. فالجميع حاول ايجاد اسس و قيم اخلاقية و ان كان ذلك بمفاهيم مختلفة… و نسي الجميع او بعضهم ان القيم و الاسس الاخلاقية تتعلق بثوابت و الثوابت تتعلق بنقطة او لحظة تاريخية ما زلنا نجهلها… لا احد يعرف تماما لماذا يجب الالتزام باحترام شرائع الله كما نعتقد… او نحترم حقوق الانسان في الوجود رغم اننا لا نفهم سر هذا الوجود بل نظن انها وجدت عبثا و العبث ليس له ثوابت… فكيف يمكن مثلا جعل حقوق الانسان من الثوابت اذن… هل يمكننا ان نقول ان الكانيبالز اي الذين يأكلون لحوم البشر هم ليسوا بشرا… او انهم ليست لديهم قيم اخلاقية و ثوابت؟… الا يعني ذلك اننا ما زلنا نعيش عالم تصوراتنا عن الاشياء فحسب..؟؟..
الان…لنعد الى السؤال الذي طرحنا في بداية المقالة…مالذي يمكن ان يلعبه اكتشاف هيجز في حياة الانسان و المجتمعات التي تواجه مشاكل لا حصر لها… اقتصادية و سياسية و بيئية و ثقافية و اخلاقية..؟؟.. هل يستطيع هيجز ان يوفر لنا جوابا مريحا..؟…ام انه يعيدنا الى المربع الاول… حيث قديما تسائلت بعض الفلسفات… اذا كان الله هو خالق كل شيء فمن ذا الذي خلق الله… هذا السؤال يمكن ان يوجه الى هيجز ايضا… و اذا كان الناس يعبدون الله الذي لم يروه… فلماذا يستعيضونه بالاله هيجز الذي احتاج العلماء الى اربعين سنة من العمل المضني و مليارات الدولارات حتى يلاحظوا مجرد وميض عن طاقته و عن طريق اجهزة و تكنولوجيات متطورة و معقدة لا يمكن للانسان العادي ان يفهم شيئا عن عمله..؟؟
ربما نتابع في مقالات مقبلة الا اذا تدخل هيجز و غير كل المعدلات… من يدري..؟؟!!