الأهرام المصرية: نوال السعداوى
علمتها أمها النطق باسمها، الحروف كتبتها بالقلم على الورقة، ماتت أمها وبقيت الورقة تحمل حروفها ورائحة لبنها، جاء المدرس وشطب اسمها، كتب مكانه اسم رجل مات قبل أن تولد، لم تعرف له وجها ولا رائحة، ثم جاء السجان يفتش سريرها ويعلن: الورقة والقلم أخطر من الطبنجة.
كانت أمها تحكى عن الإلهة «توت» التى قالت لابنتها «إزيس، منذ سبعة آلاف سنة» احكمى بالعدل والرحمة وليس بالألوهية» وبعدها بثلاثة آلاف عام، جاء الإله يهوه بزلازله وبراكينه، وأمر بشطب اسماء النساء، إلا حواء، كانت مطيعة لزوجها الذى ولدها من ضلعه، لكنها اقترفت الخطيئة بامتلاك المعرفة وتم عقابها باستئصال عقلها، فأصبحت جسدا بغير رأس، وان ظهر لها رأس فهو عار وعورة، يجب أن تخفيه تماما.
وفى القرن العاشر قبل الميلاد، ظهر مخطوط لكاتبة مجهولة تحكى عن الزوجة الأولى لآدم قبل زوجته الثانية حواء، اسمها «ليليت» كانت مساوية لزوجها تماما، رفضت أن تكون أحد أضلاعه وقالت له «نحن توأم من أم واحدة» لكن الأمر صدر بشطب اسمها من جميع الكتب، إلا أن اسم ليليت ظهر مرة واحدة فى كتاب التوراة ثم اختفى للأبد، واشتعل خيال الأدباء فى القرون الوسطى بالمرأة المثيرة للجدل «ليليت» ظهرت لهم فى الكوابيس بشكل الشبح المفترس أو الوحش، حتى بداية القرن العشرين بعد الميلاد، طارد شبحها «فرويد» تسلطت الفكرة فى كتابه (الطوطم والتحريم) فقال «لم ينتصر الرجل بسهولة على المرأة البدائية الشبيهة بالوحش» ثم تحولت كلمة الوحش إلى «الغولة» فى الأدب الحديث، لوصف أى امرأة تمشى فى الشارع برأس مكشوف وشعرها عار منفوش.
وكان النظام العبودى يفرض الأعمال الجسدية البيولوجية على النساء بالقوة والعنف، أما الفلسفة والكتابة فكانت حكرا على الرجال من الطبقة العليا منهم افلاطون وأرسطو، وقد أسس أرسطو للفلسفة العبودية منذ ثلاثمائة وثمانين عاما قبل الميلاد، وأعلن أن المجتمع ينقسم إلى قسمين: 1 ـ الأشخاص، وهم الاسياد الرجال الملاك، 2 ـ الاشياء: وهى العبيد والنساء والحيوانات، واذاع ارسطو أن العبودية أمر عادل تتطلبه طبيعة المرأة، وأن الرجل خلق للأنشطة النبيلة والمعرفة الفكرية، وأن المرأة خلقت من أجل الولادة وحفظ النوع، وهى لا تسهم فى صنع الجنين إلا بوعاء داخلى أجوف، أى بمادة خام غير حية، أما الرجل فهو وحده الذى يمنح الحياة للطفل، وكان لابد من تزييف العلم والفلسفة وقلب الحقائق التاريخية، التى تثبت أن المرأة المصرية القديمة هى التى اكتشفت الزراعة واللغة والكتابة والفنون والعلوم منها علم الفلك والنجوم والطب والهندسة والفلسفة، وقد رفعها المجتمع لمنصب إلهة المعرفة، وهذا أمر طبيعي، فالأمومة معروفة وراسخة فى التاريخ، لكن الأبوة مجهولة، وقد ظلت مجهولة حتى منتصف القرن العشرين بعد الميلاد، بعد اكتشاف الجينوم والبصمة الوراثية، دي. إن. إيه.
صمدت الحضارة المصرية ضد العنف الأبوى لآلاف السنين، حتى منتصف القرن السادس بعد الميلاد، حين بعث الامبراطور جوستنيان قائده نارسيس إلى جزيرة فيلة، وتم تدمير أربعين ألف صورة وتمثال للإلهة إزيس، ونقلت الكنوز المصرية إلى القسطنطينية، وتمكن الحكم الجديد من اعتماد المسيحية دينا رسميا فى مصر، وأمر الامبراطور ثيودسيوس بحرق المتاحف المصرية والمراكز العلمية ومكتبات الإسكندرية، وتم تدمير الثقافة المصرية القديمة وتراثها الأدبى والفلسفى والعلمى والتاريخي، وقتلت هيباثيا أستاذة الفلسفة بجامعة الإسكندرية، وحصل البطريق ثيوفيلوس من القيصر ثيودوسيوس على إذن بتخريب أكبر أكاديمية علمية فى مصر وهى السيرابيون وحرق مكتبتها.
وكانت فلسفة نوت وإزيس ومعات أكثر تقدما من فلسفة افلاطون وأرسطو، لأنها لم تفصل الجسد عن العقل عن الروح عن المجتمع، وأكدت وحدة الإنسان، وأن الحكمة هى المعرفة وتنبع من الحواس، وهكذا سبقت المرأة المصرية القديمة ديموقريتس وأبيقور والرواقيين والسفسطائيين، الذين أعلنوا أن التفسير الفلسفى للظواهر ينبغى أن يكون نابعا من المدركات الحسية، وأكدوا نسبية المعرفة، وأنها تنبع من الحواس وليس من آلهة اليونان، وقد أمر افلاطون بحرق كتبهم واهدار دمهم.
لم يستطع الفلاسفة والعلماء، حتى اليوم، التحرر من «أرسطو» وفكرته أن المرأة تنتج الأطفال وليس الأفكار، وأخطر ما أعلنه «فرويد» أن التشريح هو المصير، لكن كاتبة مصرية حديثة أثبتت العكس منذ نصف قرن، وأعلنت أنها تكتب مصيرها بيدها، فالمصير ليس محتوما بالتشريح، أو مكتوبا على الجبين قبل أن نولد.