اليالي الخمسة 9
محمد الرديني
ملاحق منفصلة
كتب في دفتره الصغير:
ربما لا تستطيع أن تقرأ هذه الكلمات، وحتى لو قرأت اسمك في أعلى الصفحة ستمط بوزك
ساخرا ولسان حالك يقول ما قلته منذ ثلاثين سنة: اتركوني فأنا مشغول بالفرح.
نعم يا محمد أنت مشغول بالفرح وكنت تبحث عن اقبال التي تدخل إلى صمامك الأيمن ثم الأيسر ثم كل الشرايين وبعدها كل الاوردة وتعطرك برائحة الشلب والبردي, كنا نعرفك حالما، ثلاثون سنة وأنت تحلم بذلك الوجه تسامره ليلا وتسمعه أجمل القصص، وكان أحبابك يخافون عليك من أحلامك، يقولون إن زمن الحلم ثوان معدودات، وحلمك أنت ثلاثون سنة، كنت خلالها ترسم ضحكة وجهها على الرمال كما يرسم الأطفال بيوتهم على شاطئ البحر، كان وجهها هو الذي عشت من أجله وما بين نفسك ونفسك كنت تقول:
ليس لدي الا الكلمات فهل من معين؟
وفي كل يوم وحين تتوسط الشمس كبد السماء وتشتد حرارتها كنت ترتكن بين أغصان قصب السكر وتنتظر، يأتيك صوتها الضاحك من بعيد، تتمايل أغصان البردي وتنفرج أساريرك وتحس بنفسك خفيفا خفيفا إلى حد أنك على وشك أن تطير، تطير إليها وتقول:
يا إقبال، يا ذلك الوجه الضحوك، من يستطيع مثلك أن يملك الشجاعة هذه الأيام ويضحك، اضحكي أنت اضحكي يا إقبال وسأظل أنا مثلك مشغولا بالفرح ولكن إلى حين.
بكى كما لم يبك من قبل خرج من الغرفة مسرعا ،كانت ماتزال هي مضطجعة فوق البطانية ملامحها لاتنبىء عن شىء التقى امه عند عتبة الباب الخارجي قبل يدها وشم شعرها كعادته واسرع الخطى الى الخارج قبل ان يتيح لها فرصة سؤاله.
كعادته لم يره احد وهو يعصر نفسه باكيا فالصباح لم يحن بعد وغيمتان صغيرتان كانتا فوق رأسه والظلام الابيض يلف كل شيء. كل هذا النحيب له سبب واحد، انه لايعرف شيئا ويمكن ان يعترف بانه لايعرف شيئا حتى حينما كان طالبا كان من اكثر المتبجحين بالنجاح ، يعلم اصدقاؤه اساليب النجاح الضرورية في الامتحان كان يوزع عليهم ارشاداته مجانا وكانوا يبتسمون في وجهه فهم يعرفون انه حين تحين ساعة الامتحان فسوف يأتي اليهم مبررا سبب رسوبه, هكذا هو دائما يعرف كل شيء بل ويناقش في كل شيء ولكن حين تحين ساعة التطبيق تراه صفرا على الشمال.
ذات يوم منه طلب صديقه اليساري خالد ان يخلي غرفته ساعة او اكثر ليلتقي صديقته اذ كان من الصعب في مدينة محافظة جدا ان يلتقي شاب مع شابة في مكان عام او حتى في خلوة من خلوات غابات النخيل الكثيرة في مدينته وافق على طلبه بعد ان اخذ منه وعدا ان تأتي معها اختها في المرة القادمة.
في المرة القادمة التقى بأختها، شابة حنطية الوجه بارزة الانف، كل شيء فيها صغيرحتى قامتها كانت تثير الاهتمام لقصرها لم يكن يعرف ان هذا اللقاء سيثير سخرية اصحابه منه .
اولهم قال له بعد يومين:
الم تر انك كنت سخيفا جدا وانت تشرح لها اهمية انتشار مكاتب الزواج في المدينة وعدم اقتصارها على المحاكم الشرعية.
آخر قال له:
يبدو انك تبحث عن وظيفة لم الشمل في مكاتب الزواج المنتظرة
احدهم قال له بخبث:
اكيد انها رفضت ان تقبلها بانتظار افتتاح مكتب الزواج المنتظر حتى تكون القبلة شرعية.
دامت مثل هذه التعليقات اكثر من شهر، وخلال تلك الفترة وبعدها بسنوات طويلة كنت لاافتأ اسأل نفسي هذا السؤال هل يتعين علينا ان نعيد ترتيب العالم حتى نبدأ بداية صحيحة؟ هل حاول آدم مثلا ان يكتشف كيف خرجت حواء من ضلعه؟ هل مسك الضلع اياه بقوة ووضعه امام عينيه وهو يصرخ به:
دعني ارى كم طولك وعرضك وكم من الشرايين والاوردة تحمل، وبعدها يحق لك ان تنام مع اضلاعي الاخرى؟
اعتقد وهو يسير متباطأ بمحاذاة سوق السمك القريب من بيته ان عليه ان يعيد ترتيب افكاره، انه يوم مشهود كما يقولون وليلة الزواج ستبقى في الذاكرة مدى العمر، وهاهي ليلته مضت البارحة ولم يعلق منها شيئا في الذاكرة هل هي فعلا ليلة تفصل بين عمرين أم ان انه كلام جرايد؟ هاهو يتمشى قريبا من سوق السمك كما كان يفعل منذ شهور وسنوات، لاشيء تغير، لا احساس عنده بوجود فاصل بين الليلة الفائتة والليالي السابقة انه يعرف جيدا اين الخلل؟
غدا سيقولون انه لم يتمكن من “الدخول” على زوجته وكان حديثه عن اهمية انتشار مكاتب الزواج نكتة سمجة وسيسعى اصدقاؤه واقاربه الى نسج قصص غريبة عن ليلة دخلته، بعضهم سيقول متهكما:
انه قضى ليلته مع زوجته وهو يتحدث لها عن الارتباط الحقيقي بعيدا عن مفهوم الزواج الذي لايتعدى ورقة يبصم فيها القاضي وشهود اثنين وينتهي الامر،
آخرون سيقولون ان حديثه انصب على المفاهيم القديمة للزواج وكيف تطورت نحو الاسوأ وهذا الاسوأ هو الذي يدفع بعض الناس الى الاعراض عن الزواج والبحث عن منفس آخر لتفريغ شحناتهم الجنسية.
ويختتم بعضهم القول في صخب:
كل هذا يجري وزوجته المسكينة تنتظر ان يقوم بواجبه، ظلت تنتظر ساعات طويلة، رسمت على وجهها علامات الامتعاض وهو يتحدث ولكنه لم يحس بل ظل يلغي ويلغي الى ان استأذنته في الذهاب الى الحمام ذهبت ولم تعد، لقد غادرت الغرفة فقط.
قال لها قبل شهور من الزواج لااعرف ماهو المجهول؟
وماهي الاسرار الغامضة؟
وليست لدي رغبة في اكتشاف ذلك المجهول ولا ادعي اني من صنف المغامرين الذين يريدون ان تحفر اسماؤهم على بوابات المدن، الذي اريده فقط امر بسيط.
– انا والآخر- حسنا، لنضع الصورة بهذا الشكل، ما دمت انا طرف في معادلة بين اثنين, اذن علي ان اعرف واجبي ثم مهماتي ثم ما يمليه علي وعيي رغم ان هذا الوعي قد يكون جافا او مجنونا او سخيفا بنظر الاخرين, هناك اذن ثلاث مراحل تبدأ بالواجب وتمر بالمهمة ثم الوعي.
قال لها:
حين اريد ان انفرد بتلك التي اختارها من بين كل نساء العالم يجب ان اعرف واجبي
ان احبها بكل اخلاص واقول لها ما يجب ان يقال دون لف ودوران، ثم يبدأ دور المهمات
اذ علي كما عليها ان اقوم بمهمتي كحبيب وصديق وملتصق في كل ما تتطلبه هذه المهمات من جهد وصبر ولكن ماذا عن الوعي؟ ماذا عن انجاز مرحلتي الواجب والمهمات ومواجهة الوعي، هنا اما ان يتضح كل شيء او يخرب كل شيء.
قال لها فيما هي صامتة كعادتها او ربما تتصنع ذلك:
لااريد ان اتفلسف ولا انظر ولا ادعي المعرفة، انا والله هذا الذي اشعر به في هذه المرحلة بالذات… يقف جسمي كالصل وتنوء اعضائي تحت حمل ثقيل وتعرق جبهتي كما يعرق جسد المراهق في ساحة الامتحان وهو يعرف انه فاشل لامحالة.
ودخل في غوغائه التي يعرفها تماما واكمل:
انا لا اريد شيئا سوى ان انظر الى هذا الجسد ، احنو عليه، اتمسده بيدي يمدني بنشوة لامثيل لها تختض لها كل اعضائي، انتظر ان تولج انت بي لا ان اولج انا بك،
تصرخين هلم من مزيد، اصيح انا، نحن في اول الطريق تصرخين:
ولكن هل من مزيد.
واصرخ انا:
مازلنا نكتشف، دعيني ارى نهديك اوه، تحسسي اطراف اصابعي، اتحسس انا اطراف اصابعك الدنيا تتكور كلها تحت ابطيك او ربما في النهر الذي يفصل بين نهديك ،الصمت الان هو احلى الكلام أتخجلين؟ نعم ستخجلين لاتطلقي صوتا او انينا او تأوها، فكلها عيوب افتاها اصحاب اللحى الحمراء، ولكن لديك عينيك قولي بهما اي شيء تريدينه لاأحد يراك الان ، تعلمي لغة العيون فهي الطريق الاولى نحو التأوه والمناجاة وبعدها وبعدها ستنالين حريتك.
همست بشىء لم يسمعه بوضوح وهي تغمض عينيها.
اكمل:
10 نعم ياعزيزتي، الحرية وهي تبدأ من هنا، من اكتشاف خارطة الجسد اولا
ولم يستطع ان يصرخ.
دعينا نضع جسدينا على المشرحة لنعرف مواقع الالم والنشوة والحب فيهما سترين كم هو عظيم هذا الاكتشاف لانه ببساطة يقود الى الحرية.
ودعها شاردا ودار حول نفسه مرتين قبل ان يتلقفه الشارع العام.
تذكر انه قرأ ذات مرة لأحد الروائيين البرازيليين رواية رائعة كان تقول فيها ماريا
الشابة ذات الاثنين وعشرين عاما:
يقال اننا لانفكر الا بالجنس؟ العكس هو الصحيح نقضي حياتنا ونحن نقنع انفسنا أن الجنس بالغ الاهمية نتعلم ممارسته مع العاهرات او مع العذارى، ونخبر قصصنا لمن يود سماعها وحين نتقدم في السن، نخرج برفقة الصغيرات لكي نقنع الاخرين، او نفرحهم بأننا لانزال كما تتوقع منا النساء ان نكون , لكن لاشيء من هذا, صحيح نحن لانفهم شيئا ونعتقد ان الجنس وقذف الحيامن امر واحد، ولكن الامرليس كذلك, لانتعلم، لاننا لانملك الجرأة لنقول لامرأة:
علميني اسرار جسدك، ولا نتعلم، لان المرأة ايضا لاتملك الجرأة لتقول:
حاول ان تعرفني.
وهكذا فاننا نبقى عند مستوى الغريزة البدائية للمحافظة على استمرار النوع
الخارطة اين هي الخارطة، اوه ياألهي ، الحرية، لابد من الوصول الى الخارطة
احس بيد باردة تلمس جبهته فتح عينيه ثم اغمضهما ثم عاد ليراها تجلس الى جانبه.
سألها بوهن
كم الساعة الان؟
اوه لقد نمت طويلا
هل نمت طويلا؟
لاأعتقد ذلك لانك كنت تتقلب على الفراش وانت تهذي.
بماذا؟
لم اسمع منك سوى كلمتي الخارطة والحرية كنت ترددهما وكأنهما محفوران في ذاكرتك
منذ زمن بعيد
لاعليك انها حمى المرض هل ذكر لك الطبيب شيئا اليوم؟
قال انك بحاجة الى الراحة التامة ولكن لايضمن توقف رأسك عن الدوران ولسانك عن
الهذيان.
رفعت يدها من على جبهته وامسكت باصابعه جيدا وكأنها تريد ان تعصرها في راحة يدها
قالت بصوت منخفض لكنه حنون:
ارجوك ان تهدأ فقد كانت ليلتك متعبة
اقسم بكل ارواح الذين ماتوا بدون سبب، بحياة هؤلاء الذين يعيشون من اجل الاخرين باصرار. بآدم الذي لولا تفاحته لما وجدنا على هذه الارض،انا هادىء ولست اطلب من هذه الحياة الا ان اكون كذلك، انا هادىء يا زوجتي العزيزة خصوصا في هذه اللحظات لان جسدي لايرتبط بي ،انه بعيدعني،انه ينتظرك ان تكتشفيه وحين تفعلين ذلك سيعود الي ولكنه سيكون لك قبل ذلك، حينها سترقصين فرحا، ستحسين انك اخف من الريشة اي ريشة، ستكونين اخف من الخفيف نفسه، ستكونين مثل ذلك الذي يطير داخل نفق مضاء بقوة، تداعبه ريح خفيفة، تحط به على الارض دون ان يلامس سطحها ثم ترفعه قليلا، قليلا الى الاعلى وتطير به مرة اخرى، ستحسين بألم لذيذ مثل وخزات الابر الصينية او مثل ذاك الذي يخرجون احشاءه من بطنه ليغسلوها جيدا ويعيدوها الى مكانها مرة اخرى، ستكون احشاء طفل ولد حديثا ولكن برأس انسان بالغ. هل ابالغ حين اقول ستصبحين مثل الغيمة المعلقة في السماء تدفعها الرياح بحنان دافىء الى حيث اللانهاية وحين تتقلب على جنباتها مثل ما تريد الرياح تخف الخطى ثم تبطؤها وبعدها .. وبعدها تقف منتصبة لتفرغ كل مائها.
سهرا في تلك الليلة تحدث معها طويلا، كان يجيد صناعة الكلام, احس بانها سعيدة،كانت
تدندن باغنية قديمة اكتشف بعد سنوات انها لاتحفظ غيرها كان ذلك في الليلة الثامنة من الزواج.
حضنها ثم قبلها بين عينيها كم يحب هذه القبلة انها تتيح للاثنين ان يريا بعضهما من خلال الجسد وليس الاعين.
مد يده برفق الى عنقها، تلمسه كان حارا ثم انزلقت يداه الى الاسفل قليلا، ارتفعت حرارة الجسد في هذا المكان او هكذا خيل اليه، ضغط قليلا على نهدها الايسرثم ازداد الضغط اكثر, تأوهت ولكنه سمعها تقول:
لقد آلمتني
آسف لم اقصد ذلك
انه يعرف تماما انه كان يقصد ذلك، كان يريدها ان تقول شيئا، تصيح تنتفض تفعل اي شيء يجعلها امرأة مستعدة للاكتشاف والانبهار.
ولكني هل اطلب المستحيل لنضع الامور في هذا السياق: انني انسان سوي, عاقل لااعرف
التنظير والتفلسف الاجوف والكلمات الرنانة.
لم تستغرق عنده مرحلة الطفولة سنواتها المعتادة بل انقضت بسرعة . يتذكر ان امه كانت تقول له بمناسبة وبغيرها :
لماذا تريد ان تكبر بسرعة يابني؟
لم يكن يريد ذلك بل حتى لايعرف كيف يمكن للمرء ان يكبر بسرعة لكنه كبر، لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره حتى احس ان العالم من حوله يجب ان يبطىء قليلا فهناك عشرات المتغيرات التي تحدث امامه لا بل هناك العديد من القيم والافكار تتغير بسرعة.
كان من الطبيعي ان يسمع كل يوم ان مزارعا في قريته اقدم على حرق احدى بقراته لانها شابا لاط بها او احد الرعاة باع كلبه الاصيل بسعر بخس الى احد التجار لان مراهقا قاده الى احد البساتين ليلوط به, او ان الشرطة القت القبض على معلم متزوج متلبسا في اغتصاب طفل في العاشرة من عمرها.
ولأن مثل هذه الاخبار اصبحت عادية وتحدث كل يوم فقد مل الناس في جلساتهم الليلية من تكرارها اذ بات من غير المعقول ان يعيدوا كل يوم قصة شاب اقدم على
مضاجعة بقرة ادى الى اكتشاف صاحبها ذلك ومن ثم حرقها وليس من المعقول ان يتحدث الناس طويلاعن تلك الكلبة او الكلبات التي اغراها احدهم وقادها الى خلوة ليقضي معها وطره ولايمكن ان يضيع الناس وقتهم في الحديث عن اللواط والغزل المكشوف بين المعلم واحد تلاميذه اثناء الحصة المدرسية ولكنهم – اي هؤلاء الناس بفعل خيالهم الطريوقوة ايمانهم بالقدرة التي تكشف سيئات الناس يقسمون بان العديد من الشواهد على غضب الرب قد حدثت في هذه القرية الملعونة منها مثلا تلك الكلبة التي غضبت من استمرار صاحبها في ايلاج عضوه باستمرار فيها فقررت ان تختار لحظة الولوج في يوم ما وتحصر قضيبه في فتحتها وتقوده الى ساحة القرية ليروه الناس جميعا ولم يتمكن من التخلص منها الا برمي نفسه في الشط.
في هذا الجو المشحون بالمتناقضات غير الواضحة كان ابوه شديد التوتر طيلة اليوم بل انه اصبح عدوانيا لايتورع عن ضربه بكل شيء قريب من يده.
يتذكر في احدى المرات انه قال لابيه ان طلاب المدرسة يعتزمون القيام بسفرة مدرسية طيلة نهار كامل في غابات النخيل التي تبعد ثلاثين كيلومترا عن القرية وعليه ان يشارك فيها فهذه المرة الاولى التي بخرج مع اصدقائه في رحلة كهذه ,لم ينتظر ابيه ان يكمل بل حمله كعصفور مولود ثم وضعه في احدى زوايا صالون البيت وانهال عليه بالضرب ولم يكتف بذلك بل ركض الى المطبخ وتناول هاون الحديد التي تستعمله امه في طحن الحبوب القوية ليضربه بين فخذيه بقوة حتى كاد يحس ان انفاسه تكاد تتقطع وأحس بالارض تدور حوله.
حتى الان لم يعرف السر وراء محاولة ابيه ان يضربه بين فخذيه، ربما اراد ان ان يقول له ان هذا العضو الرابض بين فخذيك هو سبب المصائب ولابد من تهشيمه وربما كان يفعل ذلك لانها المنطقة الوحيدة الخالية من العظام
في ليلة اخرى كان ابي في غاية النشوة وهي عادة ليلة استلام الراتب الشهري
وكنا قد اعتدنا على رؤيته وهو يغني بعد ان تتمكن الخمرة منه وهو يسترخي على احدى كنبات صالون البيت ولكنه في هذه المرة دخل هادئا، وبنفس الهدوء دخل الى غرفتنا وحدق فينا بعينين زائغتين ثم خرج مسرعا وسمع بعد ذلك امي وهي تدمدم بشىء لم افهمه وفي الصباح عرفت انه ظل يبكي لساعات طويلة.
قالت امي:
كان ابوك متعبا ليلة امس كان يمسك يدي ويحضنها وبين الحين الاخر كنت احس بحرارة دموعه على راحة يدي
قلت: ربما اراد الاعتذار مني ولكن كرامته لم تسمح بذلك
صاحت امي
هذا عيب هل تنتظر من ابيك ان يعتذر ياولد.
سكتت قليلا ثم عادت للقول:
كان عليك ان تعتذر منه انت
قلت: ولكني لم افعل مايستحق، لقد طلبت منه ان اشترك في السفرة المدرسية مثلما كل الاولاد يفعلون.
قالت امي بحنانها المعهود:
انه ابوك على اية حال ولاشك انه يحبك ويريد لك الخير.
لم استغرب هذا الرد فقد سمعتها تردده كلما هاج ابي غاضبا وانهال على احدنا بالضرب.
بعد سنوات طويلة اكتشف ان ماكانت تردده امه ليس
سوى رسالة تقول ان اباكم لايعرف كيف يصل الى قلوبكم من شدة حبه وحرصه عليكم.
كبرنا وشغلتنا الحياة بمشاغلها التي لاتنتهي ولكننا لم ننس
ضربات ” الهاون ” ولا ندري هل كنا نعذر ابي أم ان ما قالته لنا امنا حول ذلك الحب والحرص كفيلان بغض الطرف عن قسوته.
حين اصبحنا آباء بعد ذلك وجدنا ان هذا الحب الذي يستعمل الهاون لاثباته لايمكن استبداله بعشرات الانواع من الحب.