مرة أخرى يقف العرب و الشرق- أوسطيون أمام لحظات ترقب رهيبة… البعض يرفض التصديق و آخرون يستنكرون و قلة يتمنون … و كثيرون آخرون يغفلهم وهم عظيم… أن الروس سيتدخلون عسكريا الى جانب سوريا على العكس من تجارب أفغانستان و العراق و ليبيا..
في سلسلة مقالات تحت عنوان … الثورات العربية و الحرب الباردة الجديدة… كتبتها بين الشهر الثاني و الشهر الرابع من العام الماضي … استخلصت الى فرضية تقول أن روسيا لن تدخل في حرب الولايات المتحدة و كل ما تريده هو تحسين وضعها على الساحة الدولية…
و الآن … و الأنظار كلها تتجه نحو السماء ليس للصلاة و إنما أيضاً لمراقبة كيف ستسقط الصواريخ و قنابل الطائرات الأمريكية و حلفائها على سوريا لتهديم آخر بقايا المدنية و إمكانيات ديمومة الحياة في تلك الأرض الجميلة بعد أن دمر الكثير منها الصراع الدامي بين نظام لا يجد في الحياة دون وجوده على قمة الهرم و معارضة لا تعرف بعض اطرافها الفاعلة و المؤثرة من الحياة أي شيء سوى دماء و أشلاء …
في هذه اللحظات نحاول تفكيك عناصر الوهم الكبير من خلال بعض الملاحظات …. و هي…
أولا… نعم أن روسيا تظهر و كاًنها مقتنعة فعلا أن الحكومة السورية ليست هي المسؤولة عن الهجوم الكيمياوي… بل أن روسيا تبدو مقتنعة مثلها مثل الكثيرين في العالم أن العدوان الأمريكي ليس له علاقة بذلك الهجوم… هذه مبادئ عظيمة … لكن الاعتقاد بان السياسة في هذا العالم المجنون يمكن أن تكون مبنية على أساس المبادئ الأخلاقية هو وهم عظيم…السياسة هي تجارة و التجار ليس لديهم هدف تغيير العالم و إصلاحه … بل العيش في بحبوحة و رخاء عن طريق زيادة أرباحهم و إمكانياتهم و سلطتهم… على حساب الضعفاء … فقراء كانوا أم أغنياء..
ثانيا… هذه الحالة تشمل كل السياسيين … بدرجة أو باخرى… و هذا ما يطلق عليه البراجماتية… و أن كانت هذه البراجماتية مختلفة الأوجه و الشدة و الانفراج وفق ظروف أية قضية مطروحة.. و البراجماتية هي أيضاً ما يسمى بالعقلانية السياسية و تقضي باستخدام الوسائل و الإمكانات في سبيل تحقيق نتائج افضل …. لكن كما يقال أن الرأسمال جبان فيما يتعلق بالاستثمار فان السياسي العقلاني يحرص أيضاً على عدم الخسارة… أما المناورات و المعارك التي يتحمل درجات معينة من الخسارة فإنها توضع في خانة الاستثمار و ليس المخاطرة…
ثالثا… هذه البراجماتية أو العقلانية السياسية كانت دوما موجودة في عالم السياسة و أن ظهرت هنا و هناك في مراحل تاريخية بعض الحالمين بعالم افضل و أسسوا بناء على تلك الأحلام امبراطوريات لم تستطع أن تنشر العدالة بقدر ما نشرت آراء الحكام على أساس أنها قيم عليا يجب على الجميع الاعتقاد بها… لكن زمن هؤلاء انتهى في الغرب حيث سادت البراجماتية بشكل عام في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية و هذا بالضبط هو ما ساهم بشكل كبير في انهاء الحرب الباردة و تفكيك الاتحاد السوفيتي دون حرب …
رابعا… ما ساهم في تسيد هذه العقلانية السياسية في الغرب هو عاملان مهمان …. العامل الأول هو تطور النظام الديمقراطي من نظام سياسي بالأساس الى نظام اجتماعي سياسي حيث انتشرت حرية التعبير و حقوق الفرد و المحاسبة و الشفافية مما يضيق على السياسي مجال المناورة أو المخاطرة.. أما العامل الثاني فهو اقتصدة الحياة الاجتماعية… أي هيمنة القيم الاقتصادية المادية بديلا للقيم المبدئية و الأخلاقية التي كانت سائدة في مراحل تاريخية سابقة… طبعا هذا لا يعني أبدا اختفاء القيم الأخلاقية في العلاقات الاجتماعية إنما ما أعنيه أن قيم التضحية او القتال في سبيل المبادئ لم يعد لها دور في الحسابات السياسية..
خامسا… الآن لو وضعنا هذه الأسس في معادلة القضية السورية و إمكانية وقوف روسيا ضد أمريكا و حلفائها نجد أنه من الصعوبة أن لم يكن من المستحيل إيجاد أي مبرر مادي كي تدخل روسيا في صراع دموي من قضية دولة أخرى … أي سوريا في هذه الحالة… من جانبها… لا يمكن أيضاً تصور أن الولايات المتحدة أو أي من حلفائها لهم أية مصلحة في الدخول في هكذا صراع ضد روسيا من إنقاذ الشعب السوري من براثن دكتاتورية جائرة… كما تسميها ألبروباغاندا الغربية و كذلك تلك التابعة للمعارضة السورية…
سادسا… بناء على ذلك فان المنطق يقول بانه في اللحظة التي تكون فيها الولايات المتحدة قد قررت التدخل في الأزمة السورية عسكريا …. كما جرى في أفغانستان و العراق و ليبيا سابقا… فإنها لابد أن تكون قد اصبحت متأكدة من عدم تحول تدخلها الى صراع مع روسيا أو الصين.. بكلام آخر… أن القرار الأمريكي هو ليس مفاجأة كما ظهر في الإعلام و إنما نتيجة عمل دؤوب بدأت منذ أعلنت الولايات المتحدة وقوفها بجانب المعارضة السورية و مرت خلال مراحل طويلة من المفاوضات و الصفقات الى أن يتم التوصل الى لحظة إطلاق الصواريخ…
سابعا… بناء على فان ما يحدد لحظة انطلاق الصواريخ هو اتفاق امريكا و روسيا و ربما ايضا ايران و الصين على تفاصيل هذه الصفقات و التي ستظهر نتائجها تباعا من خلال السيناريوهات المختلفة من لحظة بدء الهجوم العسكري و حتى نهاية القصة كما يريدها و يخطط لها أصحاب المشروع… أي مشروع التدخل العسكري المباشر…
ثامنا… القرار الامريكي المفاجيء في التدخل في سوريا لا يتعلق بالهجوم الكيمياوي رغم اهميته لكنه قد يرتبط اساسا بالصراع الروسي الأمريكي التاريخي الذي شهد في الفترة نقطة تحول غاية في الأهمية …. و هي قضية عميل المخابرات الأمريكية السابق الذي كشف قضية مراقبة مواطنين و سياسين من الدول الأخرى و هي القضية التي أزعجت الكثير من أصدقاء أمريكا الأوروبيين حتى أن احد السياسيين المهمين قال… لابد أن نعقد اجتماعاتها في الشارع او في الحدائق العامة لان كل مكاتبنا و قاعات اجتماعاتنا مليئة بأجهزة تنصت أمريكية….
المهم …هذا الجاسوس لم تجراً أية دولة على استقباله و في النهاية منحته روسيا اللجوء السياسي… هذا الأمر اغضب الأمريكيين جميعا و اعتبرته الحكومة الأمريكية تحديا مباشرا لقيادة أمريكا و وضعها الاعلوي
Supriority
في العالم… و لذلك فقد ألغى الرئيس أوباما اجتماعا خاصا مع الرئيس بوتين كان متفقا أنعقاده على طرف اجتماعات قمة العشرين في سان بطرسبيرغ… الرئيس اوباما اختار في رمزية واضحة الذهاب الى استوكهولم للاجتماع بزعماء الدول الاسكندنافية التي عادة تتعرض الى مضايقات من قبل الطيران الحربي الروسي في السنوات القليلة الأخيرة…
تاسعا… بناء على هذا الأساس فان التأخيرات الأمريكية في إطلاق الصواريخ على سوريا سببه يعود الى إعطاء فرصة للمفاوضين الروس و الأمريكان لايجاد حل وسط إزاء ملف الجاسوس مقابل ملف سوريا بالإضافة الى ملفات أخرى تخص ايران و حزب الله و إسرائيل من جهة و ملف استمرار تدفق أنبوب الغاز الروسي الى أوروبا عبر اسكندرونة الذي كان على وشك إلغائه إذا ازيل النظام السياسي الحالي في سوريا و تم استبداله بمد أنابيب غاز قطر الى أوروبا…. طبعا هناك ملفات كبيرة أخرى و منها ملف مصر الذي فقده المشروع القطري التركي و لكنه ما يزال ينتظر مساومات قبل انتقاله الى ايدي الروس…
و أخيرا… تبقى قضية مهمة و هي تتعلق بمدى مشاركة الأطراف السورية المتقاتلة… أي الحكومة و معارضيها… في معرفة هذه التفاصيل و نتائجها… و هنا قد نقع في شكل اخر من الوهم العظيم إذا فرضنا أن هذا أو ذلك الطرف يمتلك رؤية شاملة حول التفاصيل و النتائج….و حتى نكون أكثر دقة فلابد ان نتذكر امرين مهمن ….أحدها يفترض تفسيرا للهدوء في الجانب الحكومي تجاه التهديدات و كاًن هناك أتفاقا بين الحكومة السورية و روسيا أما على عدم إتاحة الفرصة لدخول الهجوم الأمريكي حيز التنفيذ … أو الاقتصار على محدودية الضربات بحيث انها لا تستطيع أحداث تغير مهم في الوضع العام …اعتقد أن طرح هذه الفكرة هي الخدعة الكبرى التي ستنتطلي على الحكومة السورية بحيث لا تحرك شيئا بينما تشهد تدمير قواعدها و مطاراتها العسكرية و كذلك تدمير القوتين الجوية و الصاروخية بالإضافة آلى مراكز الكوماندو… عند ذلك ستقوم قوات المعرضة و بمساعدة مباشرة من قوات استخباراتية أمريكية أو حتى عربية بالهجوم على دمشق و احتلالها…
أما ألأمر الثاني فهو يتعلق بالطرف المعارض و تقوم على اساس فرضية سيطرة قوات المعارضة على الوضع و البدء بإعادة البناء واقتصاديا و اجتماعيا و بمساعدة مالية و تقنية من العرب و الغربين… هذه الفرضية ستواجه ايضا تحديات كارثية بسبب الصراعات و عدم التوافق بين الجهات المختلفة كما ستظهرالقوى الطفيلية و النخب الاقتصادية و السياسية وغيرها مما يجعل من المستحيل التوافق خاصة أن اغلب هذه الاطراف مرتبطة بجهات خارجية يشوب علاقاتها الكثير من الخلافات و الصراعات على الموارد و على السلطة و على الموقع الجيوستراتيجي لسوريا …
في النهاية… الشدة في هذه الأيام في الأزمة السورية إنما تعكس آلشدة في العلاقات بين القوى الكبرى…. الانحدار في الهيمنة الأمريكية و الصعود في قوة روسيا و دول البريكس…. و كذلك التطور الكبير في قوى الدور الإيراني و ذراعها القوي حزب الله في مساندة الحكومة السورية جهة … و الهيمنة السعودية على ساحة المعارضة و التي ازاحت الدور القطري التركي والذي كان يستند الى دعم أمريكي على ساحة المعارضة السورية … و أخيرا ظهور مصر مرة أخر كاًرض مفتوحة و قابلة لتمدد هذه القوة او تلك…تشابك كل هذه التطورات قربت في لحظة ما من خطوط التماس و ظهرت للحظة أن الجبهات ستنفتح على نيران هائلة و صراع دموي شديد بينما هناك وراء الكواليس تجري مفاوضات حثيثة…
و السؤال الآن هو كيف يمكن جمع كل هذه الملفات المتشابكة و وضعها في إطار خطة عمل لمؤتمر جنيف 2…. او إشعال الجبهات قليلا أم كثيرا …. لعل الروس و الأمريكان يصهروا على نيرانها خلافاتهم…؟؟؟… سنتابع…