النّص القرآني : ألفاظٌ أم سِحر؟! :ـ
بات أمر التداوي بالقرآن والرُّقى ( الشرعيّة ) أكثر من مجرد ظاهرة منتشرة في جميع أنحاء البلاد ، إذ أصبح لهُ مراكز شبيهة بالمستوصفات والعيادات الطبية ، يُصدّق لها من قبل الجهات الحكومية ويرتادها الناس قادمين إليها على كلِّ ضامرٍ ومن كلِّ فجٍّ عميق ، ويحجزون لها مسبقا كما هو الحال عند الأطباء لا سيّما الذين ذاع صيتهم بين الناس ، ولم يعد غريباً أن تجد الإعلانات التلفزيونية واليافطات والمنشورات التي تقفز في يدك وأنت بموقف المواصلات تُعلن عن ( فلان ) من الشيوخ يُعالج بالقران سلسلة من الأمراض التي لا رابط ( تخصصي ) بينها ، مثل الكلى والسُّكري وسرطان الدّم والبواسير … الخ .
وفي ذات السياق نشرت صحيفة ( لها ولهُ ) الأُسبوعية بعنوان عددها ال 197 الصادر بتاريخ 18 / 11 / 2013 خبراً يصب قطعاً بمصلحة تلك العيادات القرآنية ، حيث جاء بالعنوان و بالخط الأحمر العريض (( بمحض الصدفة علماء الغرب يكشفون النقاب عن كيفية شفاء الإنسان بالقرآن الكريم )) . وهكذا نجد الظروف تساعد تماماً هؤلاء الشيوخ الأطباء في توسعة بل وفتح أبواب جديدة من الرِّزق من حيث لا يحتسبون ، فواقع إرتفاع تكلفة العلاج والدواء الطبِّي بشكل جنوني فضلاً عن هذا الإكتشاف ( الغربي ) الذي أثبت أنّ القرآن شفاءً لما في الأبدان سيُغري ـ حتى بعض المُتشكِّكين في جدوى علاج هؤلاء الشيوخ الأطباء ـ بمحاولة التجربة من منطلق ( الغريق يتعلق بقشّة ) !
يحشد الخبر الذي أوردته صحيفة لها ولهُ ـ المختصة بنقل ، أو بالأدق تلفيق ، مثل تلك الإكتشافات الغربية القرآنية الطبية ـ عدداً من آيات القرآن ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنيين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) ( يا أيها الناس قد جائتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنيين ) ، ولكن مُحرِّر الخبر ـ الذي أضحى مقالة بإمتياز ـ يربط عملية تحقيق الشفاء تلك بالإيمان بالقوى ( السحرية ) للقرآن ، فقول : (( إلاّ أنّ إحسان الظّن بالله سبحانه وتعالى بأنّه الشافي والمعافي عبر كلامه (القرآن الكريم) والنيّة الخالصة والصادقة في هذا الإعتقاد هو السِّر الأعظم لهذا الشفاء الرّباني ))
ويتحدث الخبر / المقالة بعد ذلك عن الإكتشاف الغربي العظيم والذي تمّ بمحض ( الصدفة ) حسب ما جاء بعنوان الصحيفة : (( ومن علماء الغرب أنفسهم : لاحظ العالم الياباني ايموتوا مع تساقط الثلج على الأرض يكاذ يُذهلك التنوع الهائل للبلورات ، فلكلِّ بلورة تصميم فريد ولا تكاد تلمس تشابهاً…. وقام بإجراء تجربته العلمية لمعرفة بعض أسباب تنوع البلورات ، ووفق ما نُقل عنه في مقابلاته المنشورة وما جاء في كتابه ( رسالة من الماء ) وضع ماء مُقطّر بين مكبرين للصوت يصدر من أحدهما موسيقى متنوعة لعدة ساعات ، وأُخرى يقرأ عليها القرآن …. ونشر النتائج معلناً حصوله على بلورات تُميِّز كلّ تأثير …. ووجد أنّ الماء الذي قُرئ عليه القرآن قد تأثرت وتشكّلت جزيئياته بأشكال جميلة مختلفة عن ما كان عليه سابقاً تأثراً بالقرآن رغم عدم فهمه ـ أي الياباني ـ لكلمات القرآن )) وينتهي الخبر بنتيجة أو خلاصة طفولية شبيهة بالرابط العجيب الذي كنا نُشاهده على قناة الأطفال ( سبيستون ) فيقول بما أنّ جسم الإنسان مكون من 75% من الماء ،والقرآن يتفاعل على هذا النحو مع الماء ، إذاً القرآن يُعالج جسم الإنسان ! .
ونلاحظ بوضوح التلوين غير المهني الذي صيغ به الخبر حتى أصبح أشبه بالمقالة ، بل صار مقالة كاملة الدسم ، حيثُ يُركِّز الخبر على عدم فهم العالم الياباني للقرآن ، وعلى حشد كم من النصوص القرآنية وتوضيح كيفية عملها الطبي ، بينما المهنية كانت تُحتم الإكتفاء بإيراد الخبر مجرداً دون تحيز وإضافة تَصرِف ذهن القاري إلى مُراد ناقل الخبر ، فضلاً عن عدم ذِكر مصدر الخبر ، ولا حتى الإشارة إلى من نُقل عنه الخبر ، والإكتفاء بإسم المخترع الأوّل دون إتمام الإسم ، وعدم ذِكر الجهة العلمية التي يتبع لها أو التي أشرفت على تجاربه وإعتمدت نتائجها ، ودون الإحالة إلى رقم الصفحة التي تحدث فيها العالم الياباني عن إنجازه هذا رغم ذِكر إسم الكتاب ، ودون الإحالة إلى المقابلات المنشورة التي جاء ذِكرها في متن الخبر / المقالة .
وهكذا من ناحية تقنيات الخبر نجدها تفتقر إلى أي توثيق أو دليل على أمانة النقل ، وبالتالي فالخبر شأنه شأن معظم الأخبار التي تنشرها الصحف والمواقع الإسلامية والتي تتحدث عن إكتشافات غربية لقدرات سحرية للقرآن ، محض توهُمات إحتطبتها عقول كليلة أضناها التخلف والعجز العلمي عن مسايرة قاطرة العلوم التي تسحقهم سحقاً تحت عجلاتها ، فطبيعي جداً أن يأتي الإخراج الصحفي أوالأداء المهني الصحافي رديئاً جداً .
أمّا من ناحية مضمون الخبر نفسه فنجده يعج بالمُستغرَب والمُستظرَف ، والمضحك والمبكي في ذات الآن ، فعنوان الخبر يُشير إلى أنّ الإكتشاف تمّ بمحض ( الصدفة ) ، بينما متنه يحكي عن سبق إصرار وترصد من المخترع الياباني الذي تلا القرآن عبر مكبر الصوت ليبحث عن تأثيره في جزيئيات الماء المُقطّرة ، يبدوا أنّ كلمة ( صدفة ) قد وُضعت في العنوان لتُضفي عليه بعداً أكثر تشويقاً للقارئ في أسلوب رخيص يليق بالصحف الصفراء والتي بات واضحاً أنّ بعض الصحف الدينية أكثر إصفراراً منها .
الخبر أيضاً وضمن مُضحكاته المُبكيات يقول عنوانه أنّ صاحب الإكتشاف هو عالم غربي ، بينما متنه يُشير لعالم ياباني قح ( وليس من أصول يابانية ) ، ولعلّها عقدة النقص الغربية التي تجعل ناقل الخبر حريصاً على إيجاد صلة لكلِّ إختراع بالغرب وكأنّما قرّ في لا وعيه مصداقية البحوث الغربية وأمانتها وعظمتها ومقدارها العلمي رغم تكفيره لأهلها وإتهامه لهم بإنعدام الأهلية الأخلاقية بحكم كفرهم وماديتهم !.
بصدر الخبر نلحظ ربط مُحرّر الخبر للإيمان بالقرآن بعملية إستحضار قدراته السحرية ، حيث لا شفاء للقرآن من غير الإيمان به ، وهذا قولٌ أنا اوافق عليه إلى حد بعيد لا سيّما على ضوء الدراسات السيكلوجية الحديثة ، ولكن الخبر يُناقض نفسه عندما يتحدث عن جزيئيات الماء المُقطّرة التي إستجابت للقدرة السحرية للقرآن ، فهل تلك الجزيئيات مؤمنة بالقرآن يا ترى حتى يسري عليها مفعوله السحري ( السيكولوجي )!!؟
وحتى شفاء القرآن لبعض الحالات التي تؤمن بقدراته السحرية على العلاج لا تنسحب على جميع المؤمنيين ، أو على جميع الأمراض ، فكم من مريض مؤمن لم يُكتب له الشفاء بالقرآن !، وكم من شيخ يُعالِج بالقرآن ذهب للعلاج بالخارج بعد أن فشل في القضاء على مرضه بواسطة القرآن ! ، كما أنّ شفاء المؤمن بواسطة ما يؤمن بتحقيق الشفاء له ليس حكراً على القرآن فحسب ، بل نجد ذلك عند جميع أتباع الديانات والمذاهب ، وفي الأساطير ، ونجد العلاج بالموسيقى اليوم أحد الطرق المعتمدة حتى علمياً ، ومثل ما هو الحال عند جداتنا بالسودان وطقس ( الزّار ) الذي لطالما تسبب في شفاء عشرات الحالات العصيّة على الطب الحديث ، وكاتب السطور نفسه عاني في صباه من مشكلات في النطق أعيا الأطباء شفائها ، وكنت على وشك السفر لألمانيا لإكمال العلاج هناك لولا إصرار جدتي ـ سامحها الله على حرماني من السفر لهناك ـ على الذهاب بي إلى أحد الشيوخ ، حيثُ إنتظمت في جلسات علاج بالقرآن والمحايات لنحو شهر بدأت بعده بالتماثل والإستجابة للعلاج وطفقت أنطق حتى حُسِبت على زمرة الثرثارين اليوم .
إذاً العلاج بالقرآن لا يعود للتأثير السحري أو الماورائي للفظ هذا الأخير بقدر ما يعود إلى التأثير السيكلوجي له على المريض المؤمن بقدراته السحرية .وهذا ذات ما قد يحدث للمسيحي المريض عند قراءة القسيس لتعاويذ على رأسه . ففلسفة تلك الأساليب بالعلاج ـ ويُمكن هنا أن نُضيف إليها الموسيقى ـ تقوم على تحفيز ردود أفعال المريض على كافة المستويات. وتقوم على الإتصال بالشخص في سياق التجربة الموسيقية أو الوجدانية ـ كما هو الحال بالنص السحري أيّاً كان دينه ـ و تحفيز الجهاز العصبي المركزي للمساعدة في التحسين السلوكي والمعرفي طويل المدى في الأشخاص الذين يعانون من إختلالات عصبية – بيولوجية ونلحظ ذلك بوضوح أكثر في فعالية الموسيقى وأثرها في تنشيط إفراز مجموعة من المواد الطبيعية، التي تتشابه في تركيببها مع المورفين، وهي ما تسمى بالاندورفينات ومعلوم أن الألم والمتعة والانفعال، وكثيراً من الأمراض لها اتصال بعمل الأندورفينات، والتي اتضح أن الموسيقى تساعد مساعدة جبارة على زيادة إفرازها، وبالتالي على علاج الجسم وشفائه من الأمراض .
المسالة إذاً لا علاقة لها كما أشرت بالمضمون السحري للفظ بقدر ما هي نتاج الإعتقاد المُتوهّم بالمضمون السحري للفظ ، فالإعتقاد بقدرة القرآن ـ ألفاظ القرآن ـ على العلاج هو أعتقاد أسطوري قائم على خلل في تصور اللغة ذاتها ، وهذا ما نلمحه في غير الإعتقاد بقدرة لفظ القرآن على الإتيان بأمور خارقة متعددة ، حيث في حياتنا الإجتماعية نجد الناس يخشون من ذكر إسم السرطان فيقولون عنه ( الخبيث ) ، ونجد الموشكين على الإفتراق يختمون حديثهم بالشهادتين حيث يقول الأول : لا إله إلاّ الله ويُكمل الثاني محمد رسول الله ، ناهيك عن أساطير مثل التمائم والحجاب والإيمان بالسحر والعين والحسد ، وسنجد أنّ كلّ تلك الممارسات تستمد مرجعيتها من مفهوم القوة السحرية للغة الناتج عن قدرة اللفظ منطوقاً أو مكتوباً لا على إستحضار المعنى في الذهن فقط ، بل على إستحضار الشئ أو منعه على حد تعبير الدكتور نصر حامد أبو زيد .
والحقيقة فإنّ اللغة في علاقتها مع العالم الخارجي كما ذكر المعتزلة هي علاقة مواضعة وإصطلاح وإتفاق وليست علاقة ضرورة كما ذهب لذلك الأشاعرة حيث قالوا إنّ العلاقة بين اللفظ ومعناه علاقة ذاتية جوهرية حسب ما جاء في مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ، فلفظ (ضرب ) لا علاقة له بالحدث الذي بالخارج على نحو ضروري ، فالفعل تمّ حتى ولو لم يصطلح الناس على تسميته بلفظ ( الضرب ) ، أي إنّ اللفظ في المحصلة النهائية مجرد صوت سمعي أو رمز كتابي ، وهو بلا معنى إذا لم يكن هنالك دلالة إتفاقية عليه .
العالم السويسري دي سوسير في كتابه ( محاضرات في علم اللغة ) ضاغ على نحو ممتاز علاقة اللغة بالواقع الخارجي مستبدلاً كلمة ( لفظ ) بكلمة ( دال ) وكلمة ( معنى ) بكلمة ( مدلول ) حيث إعتبرهما يمثلان جانبي العلامة اللغوية حيث ( اللفظ / الدال ) لا يُعبِّر عن الواقع الخارجي على سبيل المطابقة ، بل يُحيل إلى مفهوم ذهني ( مدلول ) ، فتصورنا للخارج محكوم بإكراهات وقصور حواسنا المُتلقِّية لهُ والتي لا يُشترط أن تنقل الواقع الخارجي إلى أذهاننا بذات النحو الموجود عليه بالحقيقة ، وحتى ( اللفظ / الدال ) ليس هو الصوت الملفوظ أو الرمز المكتوب ، بل هو الصورة السمعية أو بالأدق الأثر النفسي الذي تنقلهُ لنا حواسنا .
إذاً هذا التصور للعالم السوسيري دي سوسير وضع حداً نهائياً لمزاعم سحرية اللغة أو القدرة الخارقة للفظ ، قرآني أو غيره ، فعلاقة اللغة متواضعة جداً بالعالم الخارجي ناهيك عن أن تؤتَى لها القدرة السحرية على تغيير قوانينه ، فاللغة ليست تعبيراً مباشراً عن الواقع إطلاقاً . ولأوضِّح المسألة على نحو آخر سأنقل هذا المثال الذي أوردته الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه ( التفكير في زمن الكفير ) في سياق مناقشته لتاريخانية القرآن : جملة مات الخليفة الأوّل أبو بكر الصديق ، هي جملة تشير إلى واقعة حدثت خارج اللغة ، لكن النظر للجملة من خلال قوانيين اللغة يكشف عدم التماثل ، الجملة تقول أنّ هنالك فعلاً ( مات ) ، وتقول أنّ الفاعل هو أبو بكر ، وهذا ليس صحيحاً على مستوى الواقعة الخارجية ، فالخليفة رحمه الله لم يفعل موته ، هذه ملاحظة أولى ، الملاحظة الثانية أنّ ( الفاعل ) نحوياً هي كلمة ( الخليفة ) وهي تمثل في الواقع الخارجي ( وصفاً ) للشخص وليس الشخص ( الفاعل ) .
التعامل مع لفظ القرآن بوصفه لا يُعطي مفاهيم معرفية بل ويأتي بقدرات سحرية لا يقتصر على المشائخ الذين يدّعون القدرة على العلاج به فحسب ، بل وينسحب على دعاة الإسلام السياسي الذين ينظرون إلى القرآن كترياق سحري صالح لكلِّ زمان ومكان لمعالجة مشاكل المجتمعات السياسية والإجتماعية والإقتصادية بإلفاظه السحرية وكلماته التي لها قدرة خارقة على صياغة الدساتير والنظريات المختلفة ، وفي نهاية الأمر هي رؤية ساذجة قد نجد مبرِّراً لبعض الشيوخ الذين يتبنونها بإعتبار أنّ حصاد تعليمهم شهادة من خلوة أو معهد ديني ، لكن من الصعب أن نجد مبرّراً لخريجي الجامعات الأوروبية أمثال الكوادر القيادية في الحركات الإسلامية التي تُصدِّع رؤوسنا بشعارات ( القرآن دستورنا ) و ( الحل السحري هو الإسالام ) … الخ التي تتبنى مثل تلك الرؤية الأسطورية للفظ القرآن .
هي إذاً دعوة على أحسن الفروض ، أي لو أحسنّا الظّن بالداعين إليها ، تعكس جهل وموروث من بقايا الأساطير القديمة التي كانت تتعامل مع الرموز والألفاظ بخشية وخوف وتعتقد بقدراتها السحرية ، وعلى أسوء الفروض محاولة للمحافظة على مصالح ومواقع إمتياز لا تؤتَى لأصحابها لو أُغلقت هذه الأبواب في وجوههم فهي بمثابة قطعٍ لأرزاقهم وإنتهاكاً لسلطاتهم وتعديٍ على رأس مالهم الرمزي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معاً ضد كلّ سلطة ظلامية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حباً في الإستبداد وتعلقاً بالسيطرة !