النظام سقط.. وثقافته لا تزال!
الأهرام المصرية
أحمد عبد المعطي حجازي
لا أستطيع أن أجد تفسيرا مقنعا لهذه القوة المفرطة التي يتمتع بها السلفيون في لجنة الدستور,
ويستطيعون بها أن يفرضوا رأيهم وهم ممثلون بواحد, علي اللجنة التي يصل عدد أعضائها إلي خمسين عضوا أصليا ومثلهم احتياطيون!
كأن هؤلاء السادة السلفيين لم يسمعوا بأن ثورة قامت في وجه الاخوان وأسقطت معه دستورهم الذي وضعوه وجعلوه أساسا لنظامهم, فإذا كان هذا النظام قد سقط فقد سقط دستوره, ولهذا تشكلت هذه اللجنة التي مثل فيها الإسلاميون بخمسة أعضاء لا أظن أنهم وحدهم الذين يمثلون الإسلام في اللجنة, التي تشكلت أغلبيتها بطبيعة الحال من المسلمين وكلفت بتعديل الدستور الإخواني المعوج, أو بوضع دستور جديد يستجيب لهذه التطورات الجوهرية التي عرفناها في الشهور الماضية, ويعبر عن مطالب الثورة والمرأة.
اقول إن هؤلاء السلفيين يتصرفون كأن شيئا من هذا لم يحدث, وهذا ليس مستغربا, فالسلفيون لابد أن يكونوا سلفيين بالقول وبالفعل, بالاسم وبالجسم, والسلفي هو من ينتمي للسلف, وهذا هو ما يميزه عن غيره من المسلمين الموجودين في اللجنة وخارجها, فمعظم أعضاء اللجنة مسلمون, وكل منهم يمثل الإسلام بحكم انتمائه له ولثقافته, لكنه يمثل العصر الذي يعيش فيه أيضا وينتمي له ولثقافته, أما السلفيون فهم كما يدل عليهم اسمهم ينتمون للسلف والسلف في القاموس هم الأجداد القدماء, وفي الدين كل من يقلد القدماء ويقتفي أثرهم, ولأن السلفيين يعيشون في الماضي البعيد فهم ينكرون كل ما حدث بعده, لأنهم لو اعترفوا به أنكروا أنفسهم ولم يعد لهم وجود, فإذا كانوا مخيرين بين إنكار الحاضر وانكار أنفسهم فهم ينكرون الحاضر, أو يضمونه للماضي ويضعون أيديهم عليه, وبهذا المنطق تعامل السلفيون مع الثورتين, أنكروا ثورة الثلاثين من يونيو, واعتبروها كأن لم تكن, وضموا ثورة الخامس والعشرين من يناير للماضي, وفرضوا عليها هم والإخوان المسلمون نظاما أعادوا فيه إنتاج النظام الذي قامت الثورة لتسقطه, بل ذهبوا أبعد جدا, فوضعوا هم والإخوان دستورا يكررون به النظم التي شقي بها أجدادنا ـ والأفضل هنا أن أقول أسلافنا! ـ في العصور السالفة!
هكذا تحولت الثورة التي أنهت نظام يوليو وطالبت بدولة مدنية وبنظام ديمقراطي, الي ثورة إخوانية سلفية, وهما ـ الإخوان والسلفيون ـ اسمان مختلفان لمسمي واحد, فالسلفيون إخوان, والإخوان بشهادتهم هم أنفسهم سلفيون, وقد أعلنوا في مؤتمرهم السادس, الذي عقدوه في أربعينيات القرن الماضي, أنهم دعوة سلفية, وهيئة سياسية, وشركة اقتصادية! ولأن الإخوان كما وصفوا أنفسهم سلفيون لا يرون في الحاضر إلا الماضي, فقد وضعوا أيديهم هم وحلفاؤهم علي ثورة يناير التي لم يشعلوها ورفعوا فوقها شعاراتهم, واستدعوا خبيرهم المتخصص في سرقة الثورات من مهجره في الخليج ليفرض نفسه علي جمعة الثوار في ميدان التحرير, ويسلم الثورة للمتربصين بها, الواقفين خلفه في الصف الأول, واذا كان الإخوان والسلفيون قد احتكروا الكلام باسم الإسلام وحولوه الي ملكية خاصة, ورفعوا فوقه شعاراتهم, فليس كثيرا عليهم أن يسرقوا ثورة يناير ويحولوها الي ملكية خاصة!
المصريون يثورون ويسقطون نظم الطغيان, ويحلمون بالدولة المدنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية, ويأتي القرضاوي والإخوان والسلفيون وأمراء قطر وحماس وتركيا والقاعدة ليختطفوا الثورة وينفردوا بالسلطة.
لماذا نجح هؤلاء في اختطاف ثورة يناير؟ نجحوا لأن المصريين فقدوا ثقافتهم المدنية التي حصلوها في أيام نهضتهم, وفقدوا معها تنظيماتهم السياسية التي لا يستطيعون بدونها مواصلة العمل وتحقيق المطالب.
لقد كنا محرومين طيلة العقود الستة الماضية من إنشاء الأحزاب السياسية, ومن الاتصال بالجماهير, ومن التعبير عن أفكارنا ومواقفنا, ومن اختيار الحكومة ومراقبتها ومحاسبتها, في الوقت الذي كان فيه الإخوان والسلفيون وجماعات الإسلام السياسي عامة موجودين نشطين, حتي وهم يتعرضون للمراقبة والمطاردة, لأن المصريين متدينون, ولأن الدين أصبح الملجأ الوحيد لهم بعد أن حرموا من ممارسة النشاط السياسي, ولأن المساجد والزوايا كانت مفتوحة للجميع, وكانت تتكاثر وتتجاور ولا تجد دائما أئمة مؤهلين يؤمون المصلين ويفتحون أمامهم أبواب الدين والدنيا, فاتسع المجال أمام الأدعياء الذين صاروا دعاة, والمتعصبين والمتطرفين الذين أصبحوا أئمة فلا تستطيع الدولة أن تقاوم هؤلاء جميعا, ولا يستطيع رئيس الدولة المستبد المنفرد بالسلطة أن يقف في وجههم, لأنه لا يريد أن يصطدم بالجماهير المتدينة, ولأنه هو أيضا ورجاله يستغلون الدين ويوظفونه في خدمة مصالحهم ودعم نظامهم, ويستخدمون في ذلك المؤسسات الدينية الرسمية, التي انخرطت أكثر من اللازم ولاتزال في النشاط السياسي, وشاركت في تديين الحياة المصرية بكل وجوهها العامة والخاصة, وفي مثل هذا المناخ كيف لا ينفرد الإخوان والسلفيون وأمثالهم بالساحة الوطنية؟ وكيف لا يضطر النظام الحاكم للتراجع أمامهم واقتسام السلطة معهم, وهي السياسة التي بدأها السادات في أوائل السبيعينيات وتوسع فيها مبارك, واستطاع بها الإخوان والسلفيون أن ينشروا ثقافتهم المتخلفة ويرفعوا شعاراتهم المضللة ويحتلوا المكان الذي احتلوه خلال العقود الماضية حتي اختمرت الثورة وفاجأت الجميع في يناير, ليأتي المجلس العسكري ويجري حساباته في الداخل والخارج, ويقرر في النهاية أن يغمض عينيه عن الإخوان والسلفيين ويتركهم يسرقون الثورة جهارا نهارا ويتولون السلطة وينفردون بها, ويقررون البقاء فيها خمسة قرون, كما قال الرئيس المعزول للفريق السيسي, يسيرون فيها عكس اتجاه الزمن ليلتحقوا بالسلف, فلا نستطيع عندئذ أن نسألهم عن مدنية الدولة, أو ديمقراطية النظام, أو سوي ذلك من المبادئ والحقوق التي نلهج بها في العصور الحديثة, بل نسمع لهم ونطيع كما كان أسلافنا يسمعون ويطيعون العباسيين والعثمانيين!
العباسيون استولوا علي السلطة في منتصف القرن الثامن الميلادي, ولم يتركوها إلا في أواسط القرن الثالث عشر, خمسة قرون وزيادة, لماذا لا يبقي الإخوان والسلفيون إذن في السلطة خمسة قرون؟!
لكن الإخوان والسلفيين واجهوا بعد وصولهم للسلطة مشكلة عويصة, لم يجدوا لها حلا, هي أن ثلاثين مليونا علي الأقل من رعاياهم المصريين, لا يعيشون مثلهم في العصور الوسطي, بل يعيشون في هذا العصر الحديث, وقد خرج هؤلاء في الثلاثين من يونيو ليسقطوا السلطة الإخوانية السلفية ويطالبوا من جديد بدولة مدنية, ونظام ديمقراطي.
والمشكلة التي واجهها الإخوان, واجه مثلها ثوار يونيو, الذين أسقطوا نظام الإخوان والسلفيين, لكن ثقافة الإخوان والسلفيين لم تسقط بعد!