يُقال: “لا تنظر للنصف الفارغ من الكأس؛ بل يجب أن تنظر للنصف الملآن.” مقولة تُستخدَم لإشعار الناس برضى – غالباً وهمي – عن واقعهم، حيث لا يشبه هذا القول سوى تعزية الأغنياء للفقراء بأنّ الفقر ليس مشكلةً والسعادة لا تكمن بالمال. ومع صحة أنّ السعادة ليست بالمال، إلاّ أن رؤية فقط النصف الملآن من الكأس ليستْ دائماً حِكمةً وليس بالضَّرورة أن تكونَ تفاؤلاً كما يُقال؛ بل إنّ النظرَ للنصف الفارغ في كثير من الأحيان هو تحديد ورؤية لمشكلة ما وعدم إنكارها أو تجاهلها وخطوة أولى للحل.
إنّ أصحاب المنافع ومَن سيطروا على العقل البشري لم يعملوا فقط على فرض قوالب فكرية ومجتمعية ونُظُم جاهزة؛ بل أيضاً عملوا على توجيه العقل نحو الاستكانة للواقع وقتل فكرة أي نهوض له بعدم تحفيز أي تحرُّك نحو التطوير، حيث تمَّ تعميم الكثير من هذه الأفكار التي عَوَّدتْ الشعوبَ على الاستكانة وأطلقوا على هذا “تفاؤلاً وقناعةً” وقالوا انظروا فقط للنصف الملآن من الكأس في محاولة دائمة لصَرف نظر الفرد أو الشعوب عن المشكلات وإمكانية البحث فيها. لا، تلك ليست إيجابيةً؛ بل استكانةً وانهزاميةً عن التحرُّك في سبيل إصلاح وتغيير ما يمكن إصلاحه.
التفاؤل الذي ﻻ يُبنى على معطيات موضوعية وأُسس منطقية هو ضرب من الوهم الذي وإنْ بدا مُنعشاً في بادئ اﻷمر فإنه هدّام ﻻ محالة. قد يكون تفاؤلاً ساذجاً وقد تكون لا مبالاة وقد تكون استكانة، كل هذه الحالات تصبّ في ذات الخانة وهو ما يُفسّر جزءاً من أسباب فشل المجتمعات العربية والشرق أوسطية أفراداً وجماعات في تقديم قراءة نقدية موضوعية لمشاكلها ولتراثها فضلاً عن عجزها عن تشخيص قضاياها واستشراف مستقبلها.
السعي لحل المشكلة هو التفاؤل بعينه وليس الانهزامية والعجز عن فعل أي شيء وفقط الانتظار والنظر للنصف الملآن. مثال على هذا قد يكون بين الماضي والمستقبل، هنا تتّضح الحاجة إلى اكتمال صورة المستقبل من خلال فهم الماضي وتشخيص عناصر القوة والضعف فيه واستلهامها لصناعة إشراقة جديدة للحياة.
من هنا، فإنّ التوصيف يمكن إسقاطه أيضاً على الحكومات والشعوب على أنّ النصف الملآن قد يرمز للطبقة المستغِلّة لغيرها، والنصف الفارغ قد يرمز للطبقة المستغَلّة من قِبَل الأولى. لهذا، فالطبقة المستفيدة تُركّز دائماً على النصف الملآن ولا تحتمل النصف الفارغ الذي يُظهِر الحقيقة، وبالتالي فهي تشتغل على جعل مقولتها هذه حكمةً لتصريف الشأن العام بغض النظر عن النصف الفارغ من الكأس الذي يرمز للمشاكل التي تتخبّط فيها الأغلبية، وهو الشيء الذي تروم من خلاله تكليس العقول وجعلها جامدة في محاولة دائمة منها لإعطاء انطباع أنّ الأمور في أحسن الموجود.
من هنا، فقد أثّرَتْ الطبقة المستغِلّة على الشعب (الطبقة المستغَلّة) وجعلتْه يرى أنه يملك أفضل الموجود، بل وأكثر، في الواقع العربي تعمل الحكومات على إيهام الشعوب والمجتمعات أنه لا يوجد نصف فارغ أصلاً ولكن العيب في عيون الشعب وتفكيره وأنّ الكأس مملوء وفائض أيضاً، ولهذا إنه لضرب من الجنون والهذيان أن يطالب الشعب بشيء من الإصلاح والتحسين، وانتحار أن يقوم بثورة، فالأجدر له أن ينظر لما يملك (سواء نصف أو ربع، يعني حتى لو كان ما يملأ الكأس هو أقل من ربع وليس نصفاً حتى) وإلاّ سيكون حاله للأسوأ حيث دائماً ما تتم – في هذه الحالة – المقارنة مع بلد بوضع تعيس سياسياً واقتصادياً وعلمياً واجتماعياً لإظهار أن خيارات الشعب ستكون كوضع هذا البلد إذا ما أراد البحث لملء المساحة الفارغة. فحين انتقاد الحكومات أو النواب في المجتمعات العربية والشرق أوسطية، يخرج على الشعب وفي الإعلام مَن يطرح هكذا أمثال كحِكمة حق يُراد بها باطل، فالشعوب في الشرق الأوسط أتعبَها النصف الفارغ، وأتعبها أكثر ذلك النصف الملآن.
لكن ومن جهة أخرى، وعلى صعيد شخصي للفرد، وقبل النظر لأي نصف أو للكأس كله، يجب أن يسأل الفرد نفسه ما جدوى البحث في الموضوع أولاً؟ هل هو موضوع مهم ومن الضروري الالتفات لهذه المشكلة في حياته/ا؟ إذا كان الجواب لا وكانت مشكلةً ثانويةً وغير مهمة، فانتهى الموضوع إذاً ولا داعي للنظر لشيء، ويستطيع الفرد بهذا إنهاء الموضوع من حياته حيث يكون الحل أحياناً كثيرة لبعض المشاكل هو رمي الكأس كله بنصفَيه الفارغ والملآن نظراً لامتلاء نصفه بما لا يقنعنا. وهنا الموضوع أنّ الأمور غير المهمة لا يجب الوقوف عندها ولا الانشغال بها سواء أشخاصاً أو ظروفا؛ بل التركيز على ما نريد القيام به من إنجازات علينا المواصلة فيها ومتابعة المسير.
(أمّا في حال وجود مشكلة ووجَبَ حلّها) أي الطرح هنا من مُنطلَق وجود مشكلة ما، الأفضل عدم النظر للنصف الملآن من الكأس؛ بل للنصف الفارغ، فهناك تكمن المشكلة التي ستظل تُلازم أصحابَها أفراداً أو شعوباً وتقضّ مضاجعَهم. المشكلة بكل الأحوال وفي كثير من الأحيان هي ابتكار للعقل للإبداع لمحاولة إيجاد حلول، فطرح المشكلات يعكس أسلوباً في التفكير ويدل على حيوية الفكر ونشاطه، وتُصاغ المشكلات في سلسلة من الأسئلة المترابطة ذات الطابع الاستفزازي للفكر ليُخرِجَ أفكاراً جديدةً ورؤًى مختلفةً والتي تعكس مختلف الأطروحات السائدة وغير السائدة حول موضوع ما، فطرح المشكلة بشكل جيد هو جزء من حلها، وهو ما تؤكده الفلسفة عبر تاريخها.
وحتى تكون الصورة واضحة وشاملة، فالنظر أيضاً للكأس لما هو فارغ ليس السؤال لما تُرِك فارغاً بقدر ما وجب السؤال عن كيفية ملء الفراغ المتبقي من الكأس ولو بسبيل آخر حتى يُملأ الفارغ من الكأس، ويكون باختيار والتوجيه حسب الزمان والمكان المناسبين لنفس الاختيار. ودائماً مواجهة المشكلة ومهما كان تعقيدها يعني نصف الحل حيث يكون النصف الثاني هو الشروع في البحث عن الحل، أما الهروب من المواجهة فيزيدها تعقيداً. أي لتصبح المعرفة كاملة ومفيدة، من الضروري النظر إلى كامل الصورة ومن مختلف الجوانب.
ختاماً، إنّ الإنسان الممتلِئ ينظر للنصف الفارغ، والإنسان الفارغ ينظر للنصف الملآن من باب عدم الاستكانة للأمر الواقع والعمل على إنجاز ما هو على صورة نفسه وحلمه وإرادته، وليس كما تُستَخدَم قصة النصف الفارغ والملآن للدلالة على التشاؤم والتفاؤل. هذا بحدّ ذاته يفضح هذا القول على مسرح تغيير المجتمع والإنسان نحو الأفضل والأكمل حيث الكثير من هذه الأقوال والتوجيهات تصب في شلّ فاعلية الإنسان وإعدام قدراته على الخلق وتغيير الواقع للأفضل.
في هذا السِّياق، يجب التفريق في كيفية إسقاط هذه الحالة على تحديد حجم وأهمية المشكلة وقيمة ملء ذلك النصف الفارغ مقابل النصف الملآن؛ حيث في كثير من الأحيان (قد لا يمكن للفرد أو لشعب رؤية أيّ من تلك الأنصاف في حال عدم وجود طريق وهدف واضحَين لوجوده ومسيرته في الحياة)، وهنا تكمن الحاجة للتوعية، للتحديد، وللقرار.
المصدر ايلاف