أوردتُ مرة ذكر فينيقيا، فعلق قارئ قائلاً إنه لا شيء هناك يدعى فينيقيا. أو «فينيقية»، كما كان يسميها الدكتور أحمد زكي باشا. والحقيقة أن معرفتي في التاريخ، أو الجغرافيا، لا تسمح لي أن أحسم في وجودها، أو في عدمه، كما فعل الدكتور وليد المعلم عندما ألغى أوروبا. أو عندما قرر وزير إعلام صدام حسين، لطيف نصيف جاسم، عندما خاطب الصحافيين، قائلاً: «الكويت؟ انسوا الكويت».
دارت في لبنان لعقود معارك أدبية وسياسية حول أصوله وجذوره، فينيقيَّة أم عربيَّة. كما دارت في مصر معركة الفرعونيّة والعروبيّة. كنت ولا أزال مع عروبة لبنان، لكنني أيضًا لست مع إلغاء التاريخ، أو حذفه، قديمًا أو حديثًا. ولا يعني لي شيئًا أن «صور» أو «صيدا» كانتا مملكتين عظيمتين قبل أربعة آلاف سنة، إذا كان أهلهما اليوم بلا طعام، أو إذا كانتا الأكثر تقدمًا في العالم. التاريخ هو للشعوب الحيّة، وليس للحجارة، إلا باعتبارها شواهد على مراحله، نبيلة أو بشعة.
على أن الدكتور أحمد زكي باشا كان عنيفًا في الحسم بأن فينيقيا، أو «فينيقية»، لم تكن: «هذا لفظ يوناني معناه النخلة، وقد وضعه الأغارقة في جاهليتهم الأولى، عندما رأوا تلك البقعة الساحلية التي تمتد من أنطاكيا شمالاً إلى غزة جنوبًا، وأطلقوا عليها هذا اللفظ لأنهم حين وفودهم عليها، رأوا فيها شجرة بهرتهم، رأوا «النخلة»، أصلها ثابت وفرعها في السماء وهي تتهادى في جمال واختيال مع النسيم حيثما مال، فقالوا مشدوهين: «فينيكيا، فينيكيا».
لكن الرومان وغيرهم، وخصوصًا العرب، لم يستخدموا هذا الاسم. ولا أهل المنطقة أنفسهم، كما يجزم الباشا، ولا هو ورد في التوراة، إلا في سفر واحد، هو «سفر المكابيين». وفي أي حال، هؤلاء القوم جاءوا إلى صيدا وصور وغزة من «جزائر البحرين»، وليس العكس.
و«لعمري»، كما كان يردد الباشا، إن هذا لأمر مفرح لأنه يفسر لي صلة القربى مع صديقي محمد مطاوع، ويشرح لي سبب المودة القديمة مع البحرين. لكنه لا يشرح للباشا، ولا للقارئ القديم، امتلاء مكتبات العالم وكليات التاريخ بالمؤلفات عن «فينيقية»، سواء أبحرت من «أوال» البحرينية أو من سواحل عُمان، كما يطيب القول لأهلها الذين اعتبروا السندباد البحري عمانيًا هو أيضًا، تاركين للبحرين السندباد البحري الحقيقي (ابن ماجد)، رحم الله مؤرخه ومواطنه يوسف الشيراوي.