“مروان بن محمد”، شاعرٌ عاش حياته عالقاً بين دولتين، كان شاهدًا علي سقوط سميه ومولاه “مروان بن محمد” آخر الخلفاء الأمويين، وأنفق بقية عمره في ظلال العباسيين فقيرًا!
من الغريب أنه لم يستفز أحدًا للكتابة عنه سوي قلة أهمهم المستشرق النمساوي “جوستاف فون جرونباوم” الذي رآه بحدقتين مختلفتين، وما احتفظت به أدبيات زمانه من حياته يختلط فيه المزيف بالحقيقي، لكنه ترك خلفه الكثير من النوادر علي كل حال..
لقد زاره أحد المتطفلين علي عالمه، فلما رأي ما يعانيه من وطأة الفقر، زف له هذه البشري المؤجلة:
– أبشر يا أبا الشمقمق، فإن روينا في بعض الحديث : إنَّ العارينَ في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة!
فأجابه “أبو الشمقمق” جادًا:
– إن صح والله هذا الحديث كنتُ أنا في ذلك اليوم بزَّازاً..
يعني تاجر قماش!
ثم استأنف ارتجالاً:
أنا في حالٍ تعالي الله ربِّي، أيَّ حال ِ
ليس لي شئٌ إذا قيلَ: لمن ذا؟ قلتُ: ذا لي
ولقد أفلستُ حتي، حلَّ أكلي لعيالي!!
لا شك أن الفقر حد من شاعرية “أبي الشمقمق” بشكل كبير، وكان شعراء عصره يرون فيه شريرًا ليس بالضرورة أن يقطعوا كل صلة بينهم وبينه حين ابتكر أسلوبه الخاص في التربح بالشعر، فبينما اختار “أبو فرعون الساسي” أن يتسول من الحجيج علي الطرقات بشعره، اختا ر هو أن يفرض “أتاوة” علي كبار الشعراء، ومن كان منهم يرفض دفع الجزية كما كان “أبو الشمقمق” يسميها فهو علي وعدٍ بهتك عرضه، ولأنهم، كانوا يقدرون جاذبية شعره وسرعة انتشاره في الأوساط الدنيا، لم يرفضوا دفع الجزية أبدًا، “بشار بن برد” علي سبيل المثال، كان يعطيه كل سنة 200 درهم، مع ذلك، عندما سمع أن “عقبة بن سلم” أعطاه عشرة آلاف درهم، زار “بشارًا”، وهدده:
– يا “أبا مُعاذ”، إني مررتُ بصبيةٍ فسمعتهم ينشدون:
هلِّلينه هلِّلينه / طعنَ قثَّاةٍ لتينة / إنَّ بشارَ بنَ بُردٍ / تيسٌ اعْمي في سفينة..
فما كان من “بشار” إلا أن أعطاه 200 درهم إضافية، وهو يقول:
– خذ هذه، ولا تكن راوية الصبيان يا “أبا الشمقمق”!
هذه رواية مهمة لارتباطها بحدث ما زال باهتاً، فثمة إجماع علي أن هذين البيتين يمثلان الشكل الأول للمواليا، أو الموال، صحيحٌ أن بدايات التحول من الفصحي إلي العامية أقدم عمرًا من “أبي الشمقمق” بسنين طويلة، لكن، صحيحٌ أيضًا أنه كان من أوائل الذين أذابوا العامية في الشعر، ليكتمل هذا اللون من الأدب الشعبي ويستقل ككيان قائم بذاته لا يحترم قواعد الفصحي في العراق أيضًا عقب نهاية “البرامكة” الدامية علي يد الخليفة “هارون الرشيد”، عندما رثت جاريةٌ أعجمية مولاها “جعفر البرمكي” عقب مقتله قائلة:
دارٌ كنتَ تلهو لو تراها دَرْسُ / سودًا وألسنة المداح عنها خُرْسُ / يا ليتَ عينك تراها حينَ صارت فرْسُ / خرابٌ لا للعزا تصلح ولا للعرسُ
وكانت تصيح عقب كل بيت يا “مواليا”!
وأغلب الظن أن “بشار بن برد” كان ينوي الاشتباك الشعري مع “أبي الشمقمق” علي شروط لغوية أكثر جاذبية للعوام وأقل التزامًا، وإلا، فلا معني لتدريب قريحته علي صناعة الشعر الضعيف إذ يقول:
ربابةُ ربَّة البيتِ / تصبُّ الخلَّ بالزيتِ / لها عشرُ دجاجاتٍ / وديكٌ حسنُ الصوتِ..
عندما لام أحدهم “بشارًا” علي قول هذين البيتين، أجابه:
– كل شئ في موضعه، و “رباب” هذه جارية لي، وأنا لا آكل البيض من السوق، فلها عشر دجاجات وديك، وهي تجمع هذا البيض وتحضره لي، فكان هذا قولي لها أحب إليها وأحسن عندها من: “قفا نبكِ من ذكري حبيبٍ ومنزلِ”!
علي هذه الخلفية، فإن التأثر بقلم “أبي الشمقمق” ساهم إلي حد كبير في تغذية العامية في الأدب!
محمد رفعت الدومي