من الواضح الجلي أن تفجير الكنيستين في مصر مؤخراً كان يهدف إلى خلق حالة تقسيم جغرافي حسب الطائفة في مصر، مثلما حصل في السودان. جماعة الترابي ونظرياته المتكئة على مقولات مؤسس الإخوان حسن البنا، كانت هي السبب الرئيس – وليست السبب الوحيد طبعاً – لما وصل إليه السودان من تشظي ولم يكن السودان الجنوبي إلا بداية المسلسل.
تفجير الكنائس في مصر أراد منها الدواعش أن (يستفزوا) الغرب ليتدخلوا مثلما تدخلوا في السودان وجزؤوه، ليتم تقسيم مصر إلى دولتين، واحدة مسلمة محضة، والأخرى قبطية محضة وهذا ما يصبو له المتأسلمون المسيسون بمختلف توجهاتهم وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، وليس الدواعش إلا الجناح العسكري لتلك الجماعة.
وهذا يقودنا إلى القول إن (التأسلم السياسي) يحصر الانتماء في الطائفة، فالمواطن هو أولاً المسلم السني، وفي الدرجة الثانية المنتمين لبقية الأديان والمذاهب، فينسف اللحمة الوطنية، ويُفجر معها (المواطنة) التي هي لب التعايش بين فئات المجتمع. وأنا على يقين راسخ أن المواطنة والدولة الدينية أو المذهبية كما ينادي بها المتأسلمون، ضدان لا يلتقيان إطلاقاً؛ بمعنى أن جماعة الإخوان هي من أخطر الحركات السياسية، التي لا يمكن أن تتعايش على أرض الواقع مع الدولة المدنية، ولا مع شعار (الدين لله والوطن للجميع)، فمثل هذا الشعار يرفضه بشدة المتأسلمون المسيسون على مختلف توجهاتهم وإن أظهروا قبوله الآن، إلا أن قبولهم به لا يعدوا أن يكون إلا تكتيكاً، سرعان ما يتخلون عنه بمجرد أن يَتمكنوا من السلطة، تماماً مثل ما فعل المتأسلمين الشيعة في إيران. لذلك فإنَّ أي دولة وطنية حقيقية، يعيش فيها كل مواطنيها بحقوق مواطنة متساوية يجب أن تكون دولة (محايدة) تجاه كل انتماءات مواطنيها الدينية أو المذهبية، وإذا أردت أن تبني دولة دينية، فيجب أن يكون كل مواطنيها من دين ومذهب واحد، والذي لا يدين ذات المذهب أو الطائفة، فهو مواطن من الدرجة الثانية، وهذا شبه مستحيل في عالم اليوم الذي نعاصره؛ لذا فلا مناص لبقاء الدول واستمرارها من نموذج (الدولة المدنية)، التي يكون فيها دين أو مذهب المواطن شأن بين الإِنسان وربه.
وغياب الدولة المدنية عن العالم العربي، والاستعاضة عنها بالدولة التي يسمونها (توافقية) لحجب عنصريتها، هي دولة (تلفيقية)، كما أنها من أهم أسباب ثورات ما يسمونه (الربيع العربي)؛ فدستور تلك الدول مليء بالتناقضات، واللف والدوران، واللت والعجن، وقوانينها يتم صناعتها وفق مقتضيات ومحاذير معينة لتصب في مصلحة الأكثرية الدينية أو المذهبية المستفيدة، التي لا علاقة لها بالعدالة ولا بالمساواة بين مواطنيها؛ وكل هذه العوامل – بالمناسبة – هي التي خلقت الثورات الدموية في أكثر من بلد عربي، والتي ما زالت حرائقها مشتعلة حتى الآن، ومواطن تلك الدول هو – وليس النخب – من يدفع الثمن باهظاً.
والدول العربية المعاصرة مرت بطورين ابتداء من أوائل القرن العشرين؛ الطور الأول تسيّد فيه القومجيون الثورجيون، الذين استغلوا القومية العربية، واستغلوا شعاراتها لكنهم فشلوا، وتلقوا هزائم مخجلة، فضلاً عن أنهم قادوا دولهم إلى التخلف والإفلاس الاقتصادي. الطور الثاني تسيد المتأسلمون الساحة العربية، ورفعوا شعار (الإسلام هو الحل) فحل بدولهم الإرهاب، وأقاموا فتناً طاحنة، غرق فيها المتأسلمون وأغرقوا معهم دولهم.
والذي يجب ان يستوعبه المتأسلمون أن الدولة المعاصرة لها شروطها التي يجب ان تتأسس عليها لتبقى، وأهم تلك الشروط ان الدين أو المذهب لله أما الوطن فهو لجميع مواطنيه باختلاف أديانهم ومذاهبهم.
* نقلا عن “الجزيرة”