الموارنة والصراع السياسي التأريخي في لبنان(1)
بقلم : عضيد جواد الخميسي
الموارنة ظهروا لأول مرة في القرن السابع. وفي القرن الثامن ، وأصبحوا طائفة مستقلة تعيش في الأغلب في جبال لبنان.
كانت غالبية الشعب اللبناني ، ومنهم الموارنة من الآراميين السريان الذين كانت لغتهم وطقوس كنيستهم سريانية. غير أن الإسلام وجد طريقه إلى لبنان في القرن الثامن في عهد الأمويين والعباسيين الذين حاولوا احتلال لبنان إلا أنهم أخفقوا بسبب التضاريس الجبلية.. ومنذ القرن الحادي عشر ، أضاف الدروز عنصراً جديداً إلى بنية لبنان الديموغرافية. وفي الوقت الحاضر ، نجد عدداً كبيراً متـنوعاً من الأديان والملل في لبنان ، لا يعيشون على الدوام في سلام وانسجام. كما أضاف التحول الإسلامي القريب العهد في إيران ، بعداً آخر إلى وضع ديني معقد في لبنان. فالخميني استخدم الشيعة في لبنان لهيمنة شيعية في ذلك البلد بالقوة واستعمال السلاح إذا دعت الضرورة لذلك. فما هو موقف الموارنة من هذه الفوضى السياسية والطائفية في لبنان ؟
بالرغم من أن الموارنة ظهروا كجماعة دينية مستقلة في القرن الثامن إلا أننا لا نسمع بأنهم لعبوا أي دور في الشؤون السياسية في الشرق الأوسط حتى زمن الصليبيين.
حصل الصليبيون ، بعد احتلالهم أنطاكية سنة 1079 ، وأثناء حملتهم على أورشليم ، على مساعدة كبيرة من قِـبَـل الموارنة ، الذين رحبوا بهم في عيد الفصح ، في 10 نيسان عام 1099 .
إن لهذا الاتصال بالصليبيين مغزاه الكبير لأنه احيا آمال الموارنة فصاروا يعتقدون أن في مقدورهم ولأول مرة الاعتماد على حليف مسيحي ضد المسلمين. كما أن هذا الاتصال قد أيقظ أيضاً شعوراً جديداً لدى الموارنة بأنهم طائفة متفردة ، وهي الطائفة القديمة الوحيدة ، التي يرتبط مصيرها بمصير لبنان. وهكذا أصبح لبنان ، كما يقول الأب بطرس ضو ، مرادفاً ” للأمة المارونية ” وامتداداً ” لهذه الأمة ” . إن هذا الوعي الطائفي أيضاً ، هو الذي جعل الموارنة ، كمسيحيين بدا لهم ان من المهم بإقامة علاقات مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.
الا أن علاقات الكنيسة المارونية مع روما ظلت قلقة ولم تستـقر حتى عام 1596 في مجمع قنوبين الذي عقده جيروم دنديني. في ذلك الحين فقط تبنت الكنيسة المارونية وطائفتها اخيراً الإيمان الكاثوليكي وأضحت تحت سلطة الفاتيكان مباشرة ، كما ان المعلومات عن حيويات وفعّاليات البطاركة الموارنة قبل القرن الثالث عشر ضئيلة جداً وغامضة. ولكن قد تكون زيارة ارميا العمشيتي لروما نهاية عزلة الموارنة. والمهم هو ان الكنيسة المارونية وطائفتها اكتسبا أعظم قوة من الارساليات المختلفة التي أوفدتها كنيسة روما إلى الموارنة. اذ كان الأوروبيون (الصليبيون) في القرن الثالث عشر مازالوا يغزون جزءاً من الشرق واضعين آمالاً كبيرة على أصدقائهم الموارنة لإعادة تـثبيت وضعهم في بلاد الشام سورية .
وفي غضون القرن السادس عشر ، كان بطاركة الموارنة على اتصال مع توسكانيا وأسبانيا وفرنسا لحماية مصالحهم في الوطن. وفي القرن السابع عشر وصلت علاقات الموارنة مع فرنسا إلى الذروة وذلك بوضع الموارنة تحت الحماية الفرنسية . ولما احتل السلطان العثماني سليم الأول سورية ومصر سنة 1516 ، أصبح الموارنة الذين كانوا يعيشون على الأغلب في جبّة بشري والبترون وجبيل والمنيطرة جزءاً من ولاية طرابلس التي تشكلت حديثاً والتي وضعت تحت سلطة حاكم دمشق العثماني .
في عهد هذا البطريرك موسى العكاري 1567، بدأ الموارنة بالانتقال من طرابلس إلى كسروان المتن ، والغرب والشوف في الجزء الجنوبي من جبال لبنان. ولما كانوا مزارعين أكفاء فقد استخدمهم الإقطاعيون الدروز في زراعة أراضيهم. ولما كانت المصلحة المشتركة تجمع بين الموارنة والدروز فقد قرروا حماية مصالحهم ومحاربة فساد الحكام العثمانيين .
تمتعت الطائفة المارونية بمكانة تحسد عليها في عهد الأمير فخر الدين الثاني المعني (1590ــــــ 1634). كان المعني درزياً خلف والده قرقماز في قيادة الدروز في الشوف عام 1584. وبحلول عام 1591 كان قد مدَّ سلطته لتشمل المتن وبيروت عام 1598 ، وأخيراً كسروان عام 1605 والتي كانت مأهولة بالموارنة. كذلك حصل المعني على صور وجزءاً كبيراً من فلسطين. كان العديد من فرق الدروز خصوماً للمعني ما عدا الشيخ يزبك بن عبدالعفيف ، الذي كان يميل جداً إلى الموارنة . وهنا أوفد البطريرك الماروني يوحنا مخلوف المطران جرجس عميرة (وهو الذي اصبح بطريركاً بعدئذ) إلى روما وإلى توسكانيا طالباً التحالف مع فرديناند دوق توسكانيا الكبير ضد الحكومة العثمانية. زار المطران عميرة أوروبا ، في الواقع ، مرتين ، وقام بالعديد من الاتصالات مع الأوروبيين بوساطة الطلاب الموارنة في المدرسة المارونية في روما. كما شجع الأوروبيين ومبشريهم الدينيين على القدوم إلى لبنان . كما ان فخرالدين المعني جنّد العديد من الموارنة في جيشه حيث اصبحوامصدراً كبيراً من مصادر القوة لذلك الجيش. كما جنّد الموارنة مرشدين له وكان أحد مرشديه البطريرك الماروني نفسه .
انتقل العديد من الموارنة ، بتشجيع من سياسة فخرالدين المعني المؤيدة للمسيحيين جنوباً إلى الشوف ووادي البقاع حيث استقروا كمزارعين أكفاء. وسرعان ما انخرط الموارنة في صناعة الحرير التي أدخلها المعني إلى لبنان. بل اكثر من هذا أصبح المزارعون ورجال الأعمال الموارنة العمود الفقري الاقتصادي في متصرفية المعني. وكان بالنتيجة ان تغير الوضع الديموغرافي لهاتين المنطقتين ، حيث قام الموارنة بإنشاء مدينتي دير القمر وزحلة في وسط جماعة درزية بينما كانت كسروان وجبيل والبترون في الشمال قد أصبحت على الغالب مارونية ، وفي نهاية القرن الثامن عشر ، عندما طرد الموارنة آل حمادة الشيعة حكام تلك المناطق ، أضحت هذه المناطق مارونية بأجمعها .
يمكننا ، على ضوء ما تمَّ قوله ، أن نستنتج بثـقة بأن فترة حكم فخر الدين الثاني المعني شاهدت ارتقاء الجماعة المارونية إلى مقام رفيع لم يسبق له مثيل. صحيح أن الأمير كان قد ربط نفسه مع العديد من الملل الدينية بحيث لم يستطع الناس معرفة فيما إذا كان درزياً أم سنياً. ومع ذلك فإن سياسته المائلة للموارنة عززت الكنيسة المارونية والطائفة المارونية وشجعت الموارنة على الهجرة إلى الجنوب حيث اكتسبوا المزيد من الثروة والقوة . كما ان الوعي الديني المتنامي عند الموارنة كطائفة متلاحمة ذات صفات سياسية اجتماعية ودينية متميزة قد ساهم في مفهومهم بأن لبنان ما هو الا امتداد للهوية المارونية. هذا ما يبرهن عليه التعليق المدون في أسفل الصورة الخيالية ليوحنا مارون والذي يقول: مجدُ لبنان أعطي له ” . واستمرت الطائفة المارونية في اكتساب القوة والجاه في القرن السابع عشر وخاصة في عهد الأمير ملحم 1568 ، وهو ابن أخ الأمير فخر الدين.
استعاد الموارنة مناصبهم في كسروان وبدأوا بشراء أراض زراعية من الشيعة. وفي غضون ذلك انتـقل عدد كبير من الموارنة من مساكنهم في الشمال وفي منطقة الدروز إلى كسروان مسببين بذلك احتكاكاً بينهم وبين الشيعة الذي خشوا منافسة القادمين الجدد. وبالرغم من هذا الاحتكاك استمر الموارنة في الهجرة إلى كسروان التي أصبحت ، خلا بضع القرى ، تحت سيطرتهم التامة في القرن الثامن عشر.
كانت هجرة الموارنة إلى إقليم الدروز في الجنوب كبيرة جداً وسرعان ما فاق المـوارنة الدروز عـدداً. وقد رحّـب بهم الأمير أحمد ، وهو آخر الأمراء المعنيين الذي كان قد خلف والده عام 1658 . وأصبحت دير القمر بسبب الموارنة مركزاً تجارياً مزدهراً للحرير الذي كان يتم تصديره إلى بيروت وصيدا ومرافيء أخرى من البحر الأبيض المتوسط. وأصبح تسامح الأمير أحمد مع الموارنة وحمايته لهم مثلاً يحتذى بحيث وجد البـطريرك المـاروني اسـطفان الدويهي ملجأً عند الأمير أحمد في دير القمر هرباً من ظلم آل حمادة الشيعة في جبّة بشري في شمال لبنان .
كانت الطائفة المارونية ، قد وُضعت تحت حماية فرنسا وكان الملوك الفرنسيون قد بدأوا باختيار قناصلهم من بين الوجهاء الموارنة الذين استخدموا سلطة فرنسا وهيبتها كأداة لسيطرتهم على الكنيسة المارونية وكهنتها. كان الموارنة فخورين جداً بأن يكونوا تحت حماية فرنسا بحيث سمى بعض الموارنة أنفسهم بـ “فرنسيو الشرق” . وهكذا أدرك الأمراء الشهابيون قوة النفوذ الفرنسي ومن ثم أهمية الحكم الماروني والسلطة المارونية وأصبحوا متحدين مع الموارنة تجمعهم مصلحة مشتركة.
تمتع الموارنة تحت حكم الشهابيين الذين كانوا قد تحولوا إلى المسيحية ، دون سائر الطوائف المسيحية الأخرى ، بمكانة فريدة في الإمبراطورية العثمانية. كانوا تحت الحماية المباشرة لفرنسا ولم يكن بطريركهم بحاجة للحصول على مصادقة السلطان العثماني ليثبته في مركزه. في الواقع ، اختار الأمراء الشهابيون ، منذ أواسط القرن الثامن عشر ، مارونياً ليشمل منصب المدبّر (مدير ومستـشار أول). وكان أول من شغل هذا المركز هو سعد الخوري ( 1780). ثم تـنامت سلطة المدبّر وهيبته إلى درجة استطاع فيها أحد المدبرين وهو جرجس باز التصرف دون استشارة الأمير أو الحصول على مصادقته. وهذا ما أثار حفيظة الأمير بشير ضد جرجس وأخيه ، عبدالأحد. وأخيراً أمر الأمير بشير بقتل الأخوين عام 1870.
من الأهمية الملاحظة في هذا الصدد بأن “الأيديولوجية المارونية” الهامدة في القرن التاسع عشر كانت قد استفحلت منذ القرن الثامن عشر فصاعداً حيث أضحت الإدارة الشهابية مرادفة لـ ” المارونية ” . وبدأ الموارنة اعتبار لبنان وطنهم الخاص مما بعث الهلع بين الطوائف الأخرى ، وخاصة الدروز الذين اعتبرهم الموارنة غرباء .
نجم الصراع بين الموارنة والدروز بصورة خاصة عندما تـقلد الأمير بشير الشهابي الثاني السلطة عام 1788 بعد وفاة الأمير يوسف. وقد استغل الأمير بشير الثاني انشغال الحكومة العثمانية بطرد الفرنسيين الذين كانوا قد احتلوا مصر بقيادة نابليون عام 1798 ، ليصبح أكثر استقلالاً عن السلطة العثمانية. كما قام الموارنة بمساندة الأمير بشير الثاني الذي كان مارونياً مهتدياً باعتباره أميرهم.
خلف الأمير بشير الثاني ، الأمير بشير الثالث الملقب بأبي طحين عام 1860. وقد خلق عزل بشير الثاني فراغاً سياسياً كبيراً لأن ابا طحين كانت تعوزه الصفات الضرورية للحاكم القوي. ولذلك استغل الدروز في الجنوب ، إقالة بشير الثاني بمهاجمة الموارنة وقتلهم بعد سنة من تـنازله. واستمرت المذبحة بصورة متفرقة حتى عام 1860 حيث أضحى لبنان حمّاماً من الدم .
وبسبب هذه المذابح أرسلت الحكومة العثمانية الجنرال مصطفى نوري باشا للتحقيق في الوضع. وأول ما فعله هذا الجنرال انه أقال الأمير بشير الثالث وأرسله إلى المنفى ، ووضع لبنان تحت حكم الحكومة العثمانية المباشر مما اثار استياء الموارنة من هذا الترتيب الجديد. وفي عام 1842 طالبت الكنيسة والطائفة المارونيتين وخاصة البطريرك يوسف حبيش بإعادة الحكم إلى الشهابيين. لكن الحكومة العثمانية رفضت ذلك بحجة أن الشهابيين ، وخاصة الأمير بشير الثالث ، آثروا الموارنة وعادوا الدروز. وكحل لمشكلة المسيحيين والدروز معاً ، عمدت الحكومة العثمانية ، بالاتفاق مع القوى الأوروبية ، إلى تـقسيم لبنان إلى مقاطعتين ، المقاطعة الشمالية تحت سلطة حاكم ماروني والمقاطعة الجنوبية تحت سلطة حاكم درزي .
احتج البطريرك حبيش لدى الحكومة العثمانية على هذا التدبير الجديد بحجة أن القرى المارونية والمزارعين الموارنة في الجنوب (الشوف) قد وضعوا تحت رحمة إقطاعييهم من الدروز. فكان بالنتيجة ان وافقت الحكومة العثمانية على تعيين وكيل ماروني على كل قرية من القرى للعمل مع الحاكم في حل مشاكل الموارنة . وبالرغم من هذا التدبير ، رفض الموارنة في الجنوب أن يكونوا تحت سلطة حاكم درزي. وقد حرضهم على ذلك الكهنة الذين أيقظوا فيهم شعوراً دفيناً من الكراهية حيال الدروز. فما كان من الدروز والموارنة الاّ اللجوء إلى العنف واندلعت من ثم الحرب الأهلية في نيسان 1845 ، عندما هاجم مقاتلون موارنة قرية درزية وأحرقوها . وهنا وقفت الحكومة العثمانية إلى جانب الدروز في هذا الصراع ونزعت الأسلحة عن السكان بشكل جزئي. كما أجرى العثمانيون بعض التغييرات في الجهاز الإداري أملاً في الحد من سلطة الإقطاعيين وضامني الضريبة .
شجع تمرد الفلاحين الموارنة في الشمال الموارنة ومسيحيين آخرين في مقاطعة الدروز في الجنوب للتمرد على إقطاعييهم من الدروز. وكما كانت الحال في الشمال فقد قام الكهنة بتحريض الموارنة في الجنوب. وهكذا بدأت الحرب الأهلية في 29 نيسان عام 1860 ، عندما هاجم الموارنة قرى درزية وهاجم الدروز قرى مارونية. وكان النزاع ، تماماً كما في الشمال ، نزاعاً بين الإقطاعيين الدروز والمزارعين الموارنة. وقد لعبت الطائفية دوراً كبيراً في هذا الصراع ، واعتبرت القوى الأوروبية المذابح التي ارتكبها الدروز ضد المسيحيين اعتداءٌ على المسيحيين. وانصبّ اكثر اللوم على حاكم صيدا العثماني ، خورشيد باشا ، بسبب كراهيته للمسيحيين. وفي الحقيقة ، دعا البطريرك بولس مسعد شعبه في الشمال إلى الاندفاع باسم الدين لنجدة أخوتهم في الجنوب مّما جعل الطرفين المتحاربين يعتقدان بأنهما يخوضان حرباً دينية .
يقع اللوم على الكنيسة المارونية ، والقوى الاوربية الكبرى والحكومة العثمانية جميعاً ، في المأساة اللبنانية لعام 1860. كانت الكنيسة المارونية قد شجعت المسيحيين على تحدي إقطاعييهم من الدروز ، كما دعمت الحكومة الفرنسية الموارنة لأنهم كانوا كاثوليكاً تحت الحماية الفرنسية ، ودعمت الحكومة البريطانية الدروز توازناً مع دعم فرنسا للموارنة. وبالنتيجة انتهت محنة عام 1860 بإقامة إدارة جديدة للمتصرفية ، وهو نوع من التسوية بين جميع الأطراف المعنية .
وفقاً لهذه التسوية ، اشترط أن يحكم لبنان متصرف مسيحي غير لبناني يعينه السلطان بالاتفاق مع القوى الاوربية الكبرى. ويساعد هذا المتصرف مجلس إداري منتخب يمثل سائر الطوائف في البلاد. بالإضافة إلى ذلك ، تمَّ القضاء على كل الامتيازات الإقطاعية كما جرى تـقسيم لبنان إلى سبع مناطق إدارية يحكمها ممثل يعينه المتصرف الذي كان يتمتع بسلطة تنفيذية كاملة ، كما تقرر أن تكون للبنان قوته الخاصة من الشرطة ونظامه القضائي الخاص به. وقد بقي النظام الحكومي الجديد قائماً حتى الحرب العالمية الأولى.
وفي عام 1915 وضعت الحكومة العثمانية لبنان تحت حكمها العسكري المباشر وألغت كل الامتيازات في لبنان وبضمنها امتيازات الكنيسة المارونية. وقد اعتبر البطريرك الماروني الياس حويك هذا الإجراء جائراً ، واضطر خرقاً لتـقليد قديم أن يطلب من السلطان العثماني تثبيت توليته كبطريرك.
كانت فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى قد أنزلت قوات في لبنان وفي نهاية الحرب احتلت لبنان وفقاً لمعاهدة سايكس ـ بيكو السرية بين فرنسا وبريطانيا العظمى ، الموقعة في عام 1916.
عندما انعقد مؤتمر السلام في باريس عام 1919 لمناقشة مصير المقاطعات العثمانية التي حررها البريطانيون والفرنسيون في الشرق الأوسط ، أراد العديد من اللبنانيين ، وبشكل خاص الموارنة الاستقلال الذاتي تحت الحكم الفرنسي. وقد لعب البطريرك حويك ، المشهور بالبطريرك اللبناني ، دوراً كبيراً في مؤتمر السلام في باريس لتحقيق استقلال لبنان عن سورية ، خاصة وأن الأمير فيصل كان يطالب في مؤتمر السلام اعتبار لبنان جزءاً من سورية. وفي عام 1920 تحقق حلم الموارنة بالحصول على دولة مستقلة تحت الانتداب الفرنسي ، وفي عام 1926 حصلت دولة لبنان الكبير الجديدة على حكومتها ودستورها الخاصين بها .
حبّذت الطائفة المسلمة في لبنان الاتحاد مع سورية ، وخاصة أهالي طرابلس بسبب ارتباط مصالحهم الاقتصادية مع سورية. إلا أن بعض العائلات المسلمة من السنة التي تعيش في بيروت دافعت عن إنشاء لبنان الكبير. ويقول رئيس جمهورية لبنان الأسبق بشارة الخوري في هذا الصدد أن المناداة بلبنان الكبير تمَّ بحضور مفتي السنة في لبنان .
كانت لمسلمي لبنان آراء مختلفة بخصوص دولة لبنان الكبير. وقد نظروا إلى هذه الدولة بكونها دول مسيحية بحتة اعتبرت فيها حقوق المسلمين هامشية. كان لبنان الكبير يعني بالنسبة لهم الوحدة مع سورية؛ لذا ، عقد مسلمو لبنان مؤتمراً دعي بمؤتمر الساحل عام 1933 ، ناقشوا فيه الوحدة مع سورية ولكن لم يكن هناك إجماع في الرأي بشأن طبيعة الاتحاد .
عقد مؤتمر آخر عام 1936 كشف عن الشقاق بين المسلمين بخصوص فكرة لبنان الكبير. بل ان الطائفة المارونية نفسها لم يكن لديها اجماع في كيفية دعم السياسة الفرنسية. فقد كان الموارنة يتطلعون إلى بطريركهم لا إلى المفوض السامي الفرنسي ، بأنه قائدهم الوحيد الذي يمثل مصالحهم الوطنية . وهكذا نجم صراع بين السلطات الفرنسية والبطريركية المارونية. وعندما انتخب أنطون عريضة بطريركاً عام 1932 ، تردد البابا في إرسال الباليوم (درع التثبيت) له. في الحقيقة ، أراد الفاتيكان تغيير عملية انتخاب البطريرك الماروني بحيث يقوم بهذا الانتخاب الفاتيكان لا المطارنة الموارنة إلا أن الطائفة المارونية أبدت معارضة شديدة لهذا التغيير .
كان الصراع بين البطريرك عريضة والمفوض السامي الفرنسي نتيجة لمساعي البطريرك لاستقلال لبنان. وفي 25 كانون الأول 1935 ، دعا البطريرك إلى انعقاد مؤتمر في المقر البطريركي في بكركي لمناقشة اسـتقلال لبنان. ودعا في خطابه الافتتاحي إلى تحقيق استقلال لبنان ، بشرط أن تنال كل طائفة حقوقها بناءً على وضعها وأهميتها وعلى إرادة لبنان المستقل على التعاون مع جيرانه إلى الشرق من لبنان ومع البلاد الغربية ، وعلى الاخص فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة . كانت هذه ، أول محاولة منذ بدء الانتداب الفرنسي لخلق انسجام أصيل بين الجماعة المسيحية التي رفضت الاتحاد مع سورية والجماعة المسلمة التي طالبت بالاتحاد مع سورية ورفضت الحماية الفرنسية. ولذا يمكن اعتبار المؤتمر ، في جوهره ، سابقاً للميثاق الوطني في المستقبل (1943) الذي كان بمثابة تسوية سياسية بين المسيحيين والمسلمين قام البطريرك بدعمها.
كان تأثير معارضة البطريرك للمفوض السامي الفرنسي والانتداب الفرنسي عارماً بحيث خرج المصلّون المسلمون من الجامع في دمشق هاتفين ” لا لإله إلا الله والبطريرك عريضة حبيب الله “. ” لا إله إلا الله وتاج الدين الحسيني عدو الله ” . كان تاج الدين آنئذٍ رئيس الدولة السورية الذي لم يعارض الانتداب الفرنسي كما فعل البطريرك الماروني. وفي الحقيقة ، اصطدم بعض القادة الموارنة ، ومنهم أميل أده ، الذي كان صديقاً مخلصاً للفرنسيين ، مع الحكومة الفرنسية عندما رفضت تعيين حاكم لبناني على لبنان. علاوة على ذلك ، لم يكن أده على علاقة طيبة مع المفوض السامي الفرنسي اثناء توليه رئاسة الوزارة بين 1929 و 1930 وكرئيس للجمهورية من عام 1936 وحتى 1941 .
حاول بعض الموارنة ، كيوسف السودا ، التحريض على قيام جهد مشترك بين المسيحيين والمسلمين لتحقيق استقلال لبنان عن فرنسا ، والذي كان مدعاة لخيبة السلطات الفرنسية. كانت ثمرة جهود يوسف السودا حصول اجتماع بين المسيحيين والمسلمين عام 1936 والذي كانت نتيجته اقرار ميثاق وطني مماثل للميثاق الذي أعلن عام 1943. وفي الحقيقة اصطدم ، حزب الكتائب الماروني الذي أسسه بيير الجميل عام 1936 ، بالفرنسيين في العام الذي يليه حول قضية استقلال لبنان. وبينما اتخذ العديد من المسيحيين في عام 1943 موقفاً محايداً بشأن قضية الاستقلال خوفاً من أن يجعل الاستقلال الغالبية العربية المسلمة تطغى كلياً على المسيحيين ، كان حزب الكتائب المجموعة الشعبية المسيحية الوحيدة التي دعمت الكتلة الدستورية ورئيسها بشارة الخوري في صراعهم من أجل الاستقلال .
هذا ما يدل على أن مصلحة الموارنة لم تتـفق دائماً مع مصلحة الفرنسيين وأن بعض القادة البارزين اتخذوا مواقف خنوع للفرنسيين. كانت الجماعة المسيحية تخشى أن وجودها بالذات سوف يضمحل اضمحلال قطرة ماء في محيط عربي. ولكن بالرغم من هذا الخوف المتأصل كانت الطوائف الدينية المختلفة قادرة على التعايش إلى اليوم الذي أضاف اللاجئون الفلسطينيون في الفترة ما بين 1948ــــ 1975 ، وبعدئذ الشيعة الراديكاليون من إيران ، أبعاداً دينية وديموغرافية جديدة أضرمت من جديد الطائفية الهاجعة والأزمة الحالية في لبنان …(يتبع )