بعد صدوره باللغة الفرنسية منذ شهور، تحت عنوان “منفية”، صدر أخيراً كتاب الإعلامية السورية علا عباس “ثورة امرأة” بالعربية، والذي يمكن اعتباره شهادة ثمينة من قلب الإعلام الرسمي السوري، تفضح التزييف المتعمد للحقائق، وتلفيق الأكاذيب، وإجبار الناس على الاعتراف تحت التعذيب.
تروي عباس حكاية انشقاقها، الحكاية التي انتهت في منتصف تموز 2012 ولكنها بدأت مع اندلاع الثورة السورية حيث تكشف عباس عن شيزوفرينيا تعيشها، بل ويعيشها مجتمعها، حيث الكل يتحدث عن الأخلاق والدين والفساد فيما يقع سلوكهم في الاتجاه الآخر.
بعد اندلاع الثورة السورية شهدنا انتعاش أنواع عديدة من الكتابة، معظمها تمحور حول تجارب الاعتقال والسجن، أو في وصف التظاهرات وأحوال المتظاهرين، إلى ما هنالك. لكن كتابة علا عباس تقع في مكان آخر، ليس للبطولات فيه مكان، بل هو حديث اعترافات وكشف يبدأ من الذات ليصل إلى تفاصيل تشكل في مجموعها صورة بانورامية للمجتمع السوري، صورة أرادت الكاتبة أن تعكس عبرها كيف فسد “العالم السوري”، وكيف أنه كان لا بد للثورة أن تقوم، كما كان عليها هي أيضاً أن تصنع ثورتها الخاصة.
لا شك أن عباس تقدم اعترافات جريئة، لقد كانت على نحو ما جزءاً من النظام، أقامت صداقات وقصص حب مع ضباط أمنيين، عُينت كمذيعة عن طريق أحد ضباط القصر، ودارت أخطاءها المهنية بمساعدتهم. بنَتْ عالمها، وامبراطوريتها المالية الصغيرة، كما تسميها. “باختصار، كنا كلنا فاسدين، ونساهم كبقية القطيع الصامت في تكريس الرشوة والمحسوبيات والواسطة وتخلخل القيم والأرواح”. تقول عباس، وتكرر ذلك من دون تحفّظ، فهي لا شك تنظر إلى مذكراتها، كما تحب أن تسميها في نهاية كتابها، باعتبارها نوعاً من التعري، الذي من دونه لا يمكن أن تكون تلك “ثورة امرأة”.
هذا المقطع من مذكرات علا عباس لن يكتمل إلا بتصوير عالمها الاجتماعي الصغير، تفاصيل بيتها، كلبها، وصديقاتها، حكايات الزواج الخائبة، مفهوم الشرف، وسواها من تفاصيل. كذلك فإنها ترسم في كل كلمة توزعَها بين عالمين السهر، والولع بعمليات التجميل، عالم الثراء، والفقر الذي تراه بأم عينها قريباً منها، تتهكم من ذاتها كيف تقوم بكل بساطة بشراء ثياب في مرة واحدة بما يعادل راتب موظف لشهور، ترقص، وتلوم نفسها كيف تفعل ذلك فيما مجرزة تقوم في الجامع العمري أو الحولة وسواهما. غير أن الكتاب يروي كيف أن هذه التفاصيل تنبني واحدة فوق الأخرى لتصل بالمذيعة الرسمية إلى الانشقاق أخيراً.
“كانت الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وكراً للفساد والسرقات ووأد الإبداع لسنوات، ولم نكن كموظفين نملك أي حافز لتطوير أنفسنا إعلامياً ومهنياً”. تقول عباس، لكنها لا تتوقف هنا، بل تفضح ألاعيب الإعلام السوري في العزف على وتر الفتنة الطائفية، أو استعمال القضية الفلسطينية، وحجم الرعب الذي يبثه في قلوب موظفيه من إجل الإمساك على أنفاسهم ومنعهم من الانشقاق. ومع ذلك تراودها نفسها أن تفتح زر الهواء لتقول “مرحباً بكم في بداية حلقة جديدة من برنامج سوريا بخير. وهذه تحية مني أنا علا عباس في التقديم. سأعترف لكم أن سوريا ليست بخير، وبشار الأسد قاتل، ثوروا أيها السوريون بوجه قاتلكم”. لكنها سرعان ما تطفئ زر الهواء، لتضيف “وأطفأت معه ضميري”.
تفاصيل كثيرة ترويها الكاتبة لتقول كيف وصلت إلى تلك اللحظة التي كتبت فيها بيانها “أعلن توقفي عن العمل في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون كي لا أكون شريكة في سفك الدم السوري أو في تبرير سفكه”. لتواجه من ثم تهديدات بالقتل والانتقام، فتقرر في الليلة ذاتها الهرب إلى بيروت ومن ثم إلى باريس.
كتاب “ثورة امرأة” مع أنه صدر بالعربية فهو ما زال موجهاً إلى الفرنسيين، لغةً وبناءً. أشياء كثيرة يصعب تفسيرها في كتاب همّه رواية الانشقاق تلك. مثلا هذه الفتنة الغريبة التي تروح الكاتبة تكررها “أعترف أنني ما زلت مفتونة بهذه الخلطة التي نبعت من روح الشرق المؤمن بالله والخرافة والجنس، شرق الفتنة والسحر والجمال والثقافة والتخلف”. خلطة يصعب تفسيرها ربما على ضفتي المشرق والمغرب.
كتاب علا عباس ليس شهادة عادية، إنها اعترافات قلما سمعناها إثر الانشقاقات الكثيرة بعد الثورة، ربما عدا مرتين، واحدة قال فيها ضابط منشق عن وزارة الداخلية عبارته التي لا تنسى “سوريا المستقبل يجب أن تكون خالية من أمثالنا”، وأخرى قال فيها رجل الأعمال المعروف فراس طلاس “نحن كنا جزءاً من حراس مزرعة الأسد التي تضم أغناماً وكلاباً وصيادين وحراساً”.