في عام 1990، تسلل ميشال عون من منطقة بعبدا، على آليتين مصفحتين مع عشرين شخصًا من أعوانه، وذلك إثر قصف مكثف للطيران الحربي السوري؛ ضمن تفاصيل مثيرة يرويها السفير الفرنسي السابق رينيه آلا، إذ كانت السفارة الفرنسية هي مقصد الجنرال، ليعلن على الإذاعة ضرورة التزام جنود الجيش بأوامر قائده إميل لحود، لتنسّق من بعدُ الاستخبارات الفرنسية عمليّة معقدة لإخراج عون من لبنان بعد مواجهات دامية أريد لها أن تستمر، غير أن الجنرال فضّل غير ذلك.
خمسة عشر عامًا قضاها الجنرال في باريس، المقرّبون منه تحدثوا عن شغفه بالقراءة، وتبنيه للمفاهيم العلمانية، راسمًا في خياله حلمًا للدولة في لبنان.
عاد من المنفى عام 2005، ضمن تسوية كبرى في لبنان، عقب اغتيال الرئيس الحريري. كانت العودة مدوّية. وصفها جنبلاط بـ«التسونامي»، غير أن التحوّل سيكون في زيارته لسوريا، وتحالفه مع «حزب الله»، واستمراره في الهجوم على «اتفاق الطائف»، حينها كان الفراق واجبًا بينه وبين تيار الرابع عشر من آذار.
بعد انتخابه، تضمّن خطاب القسم تحوّلاً كبيرًا في مسيرته، ركّز على مفهوم الدولة، وتبنّى لأول مرةٍ في تاريخه «اتفاق الطائف»، وكونه ضمن الدستور، وضرورة تطبيقه، مذكرًا باستقلال لبنان، وسيادته، وتنحيته عن أزمات محيطه، ضمن كليات ضرورية، يحتّمها أي توجه حقيقي فعلي، لإنعاش هيكلية الدولة بلبنان، وترميم ما تبقّى من المؤسسات.
بانتهاء الفراغ الرئاسي بلبنان ينتصر اتفاق الطائف مجددًا، وكأن المشهد يعيد نفسه، حين استقل النواب الطائرات من مطار «القليعات» للغرب السعودي، في أواخر الثمانينات، إذ كان مطار بيروت غير آمن حينه، ليكون اتفاق الطائف، النواة الأولى لإعادة بناء الدولة، ويعيش لبنان بعده أزهى عصوره منذ الاستقلال، اقتصاديًا، وتنمويًا.
مسلسل الاغتيالات، وتعطيل انتخاب الرئيس، وسائل مارسها المحور السوري – الإيراني، بغية طمس اتفاق الطائف، وذلك عبر الذهاب إلى «مجلس تأسيسي»، يقود لبنان إلى إيران، ويصبح فيه حسن نصر الله، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في لبنان.
شكّلت زيارة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي، ثامر السبهان، علامةً فارقةً في تاريخ العلاقة مع لبنان، البلد الذي اعتنى به ملوك السعودية منذ الملك فيصل وحتى الملك سلمان، والذي لن تتخلى عنه السعودية، لكنها بالمقابل تريد أمرين أساسيين؛ أولهما: الحفاظ على اتفاق الطائف بوصفه ضمانة للسلم الأهلي اللبناني، والثاني: التأكيد على عروبة لبنان، وهذان الأمران موجودان في خطاب القسم، غير أن الصعوبة الكبرى في التنفيذ تكمن في أن رئيس الجمهورية ليست لديه صلاحيات كبرى على مستويات التنفيذ، وقد توضع العصي في الدواليب كما حصل في تجارب سابقةٍ لحكومات أُجهضت بليل.
أكبر ملف على طاولة الرئيس ميشال عون، هو ملف الصراع بين «الدولة»، والراغبين في حالة «اللادولة».
ولعلّ الرئيس الثمانيني، الذي يسميه أنصاره بـ«بيّ الكل»، أي أبي الجميع، أن يستطيع مواجهة جميع الأحزاب بضرورة استئناف بناء الدولة، وأن يقرر مصير الصراعات التي يخوضها حزب الله بسوريا، واليمن، ودول الخليج.
إذا كان عون فعلاً كما يقول تلامذته، عاشقًا لفرنسا وعلمانيتها ومؤسساتها، هائمًا بالفلسفات الحقوقية، ونظريات العدل، وأسس المدنيّة، فهذه فرصته التاريخية ليطبّق ما قرأ. النظريات التي كان يطرحها على مريديه في بيته بفرنسا، إن لم تطبق في تجربته السياسية الحاليّة، عبر تسنّمه سدة الرئاسة الأولى، فإن تجربته بالحكم ستكون بمثابة «الهروب الثاني»، من مواجهة الأحزاب الخارجة عن مفهوم الدولة.
قديمًا كتب الفيلسوف الألماني هيغل: «إن الدولة هي الحقيقة الواقعية للفكرة الأخلاقية، إنها الروح الخلقية بما هي إرادة متجلية، واضحة لذاتها، جوهرية، والتي تتصور ذاتها وتعرفها، وتفعل ما تعرفه، وكما تعرفه».
لبنان، اليوم، أحوج ما يكون للحقيقة الواقعية، التي تأتي دائمًا بعد الفكرة الأخلاقية، هذه حقيقة تقرر في بيروت، كما في باريس، أو الضاحية الجنوبية؛ مسقط رأس الجنرال، قبل أكثر من ثمانين عامًا، ومراتع «حزب الله» اليوم!
نقلاً عن الشرق الأوسط