سلخ حافظ الأسد علي دوبا كفاً أمام الملأ؛ لأنه حاد قيد أنملة عن الخط المرسوم له، رغم كل خدمات الإجرام التي قدمها دوبا لهذه العائلة وإسهاماته الكبرى في إدامة تحكمها في رقاب السوريين ومعاشهم اليومي
عمار مصارع:هافينغتون بوست عربي
في دول العالم التي تحترم شعوبها تكون المقرات الأمنية أبنية لها عناوين محددة وليست سرية، وينحصر عملها في أرشفة وجمع المعلومات الخاصة بأمن تلك الدول، وأحياناً تكون مقراً لإجراء التحقيقات، والاحتجاز المؤقت (غالباً 48 ساعة بالحد الأقصى) دون ان تتحول إلى سجون ومعتقلات، ودون أن يفقد المواطن فيها حق الدفاع عن نفسه، وحفظ كرامته، وإن حدث غير ذلك فإن الاحتجاجات تتصاعد، وتكثر المطالبات لمحاسبة من يرتكب فعلة كهذه، وقد يطاح برؤوس كبيرة عقاباً على هذه الجريمة إن حدثت!.
تخضع هذه المقرات الأمنية -عادة- للقوانين في تلك الدول، مثلها مثل مؤسسات الدولة الأخرى، ومهما كان حجم المشكلة التي تتابعها، فإنه لا يمكن لهذه الأجهزة أن تحيد عما رسمه لها القانون، كما هو الحال في لانغلي واسكوتلانديارد وغيرها من المقرات الأمنية المعروفة في العالم.
الأمر في سوريا “الأسدين..المقبور والمعتوه” مختلف جداً!
المعلن من هذه المقرات هي سجون، وأماكن اعتقال، ومراكز قتل وتعذيب -لم يشهد التاريخ مثيلاً لها- قبل أي شئ آخر، وهي، من جهة أخرى، شاملة لا تقتصر على المعروف منها أو المجهول الذي يتبع لهذه الجهة أو تلك، بل قد تتحول الكنيسة والجامع وغرف المحاكم إلى مقرات أمنية، تستخدمها هذه الأجهزة لإذلال مواطنيها وهدر كرامتهم، مثلما تتحول المدارس ودور السينما، كما حدث حين حولوا سينما العباسية بدمشق إلى معتقل، وعندما تحولت مدرسة فايز منصور إلى معتقل في سبعينات القرن الماضي، والبيوت الأثرية في الشام، ومنها بيت الشيخ الحسيني في الحلبوني، الذي تحول إلى معتقل شهير.
من المعروف أن خطة كارلوس التي وضعها لتنظيم الأجهزة الامنية السورية بتكليف من حافظ الأسد، تتضمن شقين: الأول منهما إنشاء أجهزة أمنية متنوعة الاختصاص (عسكري – جنائي – سياسي – جوي – أمن دولة … الخ)، تراقب أنفاس الناس وتحركاتهم وعلاقاتهم وحياتهم الاجتماعية، وفي الوقت نفسه -وهذا هو الشق الثاني- تراقب هذه الأجهزة بعضها بعضاً، فالمطلوب من علي دوبا بوصفه رئيس إدارة الأمن العسكري لا يقتصر على مراقبة الحالة الأمنية العامة، بل يتجاوزها إلى معرفة حركات وسكنات زملائه جميل حسن أو علي مملوك أو محمد الخولي، بدوره الخولي يراقب دوبا والبقية، وعلي مملوك يراقبهما مع البقية، وهكذا دواليك مع البقية.. وكلهم في النهاية يرفعون تقاريرهم بالشعب وببعضهم إلى رأس الهرم المقبور ومن بعده نجله المعتوه.
يجدر التنويه هنا بأن مراقبة الفروع لبعضها لا تعني مراقبة أدائها وسلوكها تجاه الشعب، لمعاقبة المسيء، بل إنها مراقبة لمدى ولاء هذه الأجهزة لعائلة الأسد الحاكمة، أما إجرامها تجاه الشعب فلا يرتب عليها أي مسؤولية.
الأمر نفسه ينسحب على المحافظات، إذ تراقب كل جهة أمنية الجهة الأخرى، وكل رئيس فرع يراقب حركة زملائه، ويعمل على معرفة كل ما يفعلونه، سواء في إطار أعمالهم، أو في حياتهم الشخصية، وممارستهم لفنون الفساد، هم وعائلاتهم، بدءاً من تشفيط أبنائهم بسيارات الدولة، وليس انتهاء بـ”سلبطة” زوجاتهم على محلات الذهب، ومحلات اللانجري، لاختيار أفضل أساور الذهب، وأجود أنواع السوتيانات والمكياجات، مروراً بمحلات الأجهزة الكهربائية وغيرها!.
هذا كله من أسباب بقاء كل الخيوط بيد المقبور حافظ الأسد ونجله يتحكمان بها كيفما أرادا!.
كما قلنا.. كل التقارير ترفع للأعلى؛ حيث تؤرشف وفق أحدث أساليب الأرشفة، وتحفظ لساعة الحاجة، وتظهر إن صدف وإن نسي بعضهم نفسه فظن أنه يستطيع العيش وأخذ الإتاوات دون رضا وعلم المقبور ونجله، فتخرج التقارير ويرمى الذي كان قبل دقائق “عتريسا” رمي الفأر الميت في المزبلة. ويحفل تاريخ العصابة الحاكمة بمئات الأمثلة، وكلنا يذكر محمود الزعبي الذي بين ساعة وأختها تحول من رئيس وزراء إلى منتحر بخمس رصاصات، ومثله مصطفى التاجر الذي عفن في السجن بعد أن كان يلعب برقاب الناس، ومن الطرائف التي تروى في هذا الشأن، أنه كان يجري تجهيز وزير السياحة محمد أمين أبو الشامات لاستلام رئاسة الوزراء، وشاء حظه السيئ أنه خلال ممارسته رياضته الصباحية في شاليهات ميرديان اللاذقية، كان رفعت الأسد المغضوب عليه آنذاك، جالساً يشرب قهوته الصباحية أمام الشاليه.. مرّ أبو الشامات من أمامه، فدعاه رفعت لفنجان قهوة، فلبى الدعوة على مضض، لكن قبل إكماله شرب فنجانه وصله أمر إقالته من وزارة السياحة، وأرسلت له أغراضه الشخصية قبل أن يصل العاصمة!.
ولكي لا ينسى هؤلاء”العتارسة الأمنيون” ذيليتهم، وأن العصابة الحاكمة هي من يتحكم بالهواء الذي يتنفسونه، فقد دأب حافظ الأسد على تذكيرهم بحجومهم الصغيرة بين فترة وأخرى، وكل السوريين يعرفون كيف أن حافظ الأسد – سيد الإجرام العالمي – سلخ علي دوبا كفاً أمام الملأ؛ لأنه حاد قيد أنملة عن الخط المرسوم له، رغم كل خدمات الإجرام التي قدمها دوبا لهذه العائلة وإسهاماته الكبرى في إدامة تحكمها في رقاب السوريين ومعاشهم اليومي.
في إطار هذه الهيكلية والتراتبية الأمنية، وكي يبقى الأمر ممسوكاً، كان لا بد من توسيع المقرات والأجهزة الأمنية، وربطها بإحكام، خاصة بعد مجازر حماة في بداية ثمانينات القرن الماضي، والتي راح ضحيتها نحو أربعين ألف مدني بريء، في واحدة من أفظع جرائم القرن الماضي، ذلك أن نظام عائلة الأسد، أيقن بعد المجزرة أنه نظام مكروه، وأن حاضنته لا تتعدى المستفيدين من فتاته، وأن ثمة هوة كبيرة بينه وبين الشعب الذي يحكمه.
مع بداية الثمانينات، ما عادت المقرات والأجهزة الأمنية مقتصرة على المعلن منها، فتحولت الوزرات والمديريات والمؤسسات إلى مقرات أمنية فيها مسؤول أمني يحل ويربط أكثر من الوزير نفسه، أحياناً بمسمى وظيفي كمدير مكتب للوزير، وأحياناً تحت يافطة “المسؤول الأمني” وهذا المنصب قد يتقلده “بوفجي” الوزارة، إن كان قريبا لمدير هذا الفرع الأمني أو ذاك، أو ناشطاً في توريد التقارير، وتكون لهذا “البوفجي الأمني” الكلمة العليا في الوزارة، فيما يكون طموح أكبر وزير الحصول على استدعاء – ليس دعوة – من رئيس فرع أمني لشرب القهوة معه!
الأمر نفسه ينسحب على الإدارات العامة، فالمسؤول الأمني كلمته هي العليا، وهو قادر على التدخل في كل شؤون المؤسسة الإدارية منها وحتى الفنية التي تحتاج إلى خبرة واختصاص، وكم من حملة شهادة ابتدائية تم تسليمهم مهام فنية تحتاج إلى معرفة واختصاص، لمجرد أن المسؤول الأمني راض عنهم، وتمكن من رسم صورة وردية عنهم لدى الأفرع التي يتعامل معها.
المسؤول الأمني صاحب الكلمة الأهم، نراه في القيادة القطرية وفروع الحزب، وفي المنظمات الشعبية، وفي الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وفي مقرات الصحف، وفي مؤسسة الأعلاف، وفي قصور العدل، وفي معمل الشحاطات.. إنه ظاهر بمسدسه المتدلي على جنبه، لكنه مرصود من أمني آخر سري يراقبه ويراقب ضحاياه!
حتى الجوامع والكنائس تحولت إلى بقع أمنية غالبا ما يكون خطباؤها مرتبطين بهذه الأجهزة، تأتيهم الخطب جاهزة، ومطالبون بأن تكون عيونهم 10/10 في مراقبة المصلين وأحاديثهم بعد الصلاة، بل وحتى طول لحاهم!
الأمر نفسه نجده في الجيش، حيث يبرز الدور الكبير للمقر الأمني، الذي يديره ضابط تحت مسمى “ضابط التوجيه المعنوي”، سيارته لا تقل رفاهية عن سيارة قائد القطعة حتى لو كانت رتبته متدنية، وأمره مجاب في كل الشؤون، يخافه قائد الثكنة مثلما يهابه حاجبها، يتدخل في كل شاردة وواردة، إنه عين الأجهزة الأمنية ومراسلها، ترفيعه من رتبة إلى أعلى سلس، وتقريره يحدد ترفيع زملائه من عدمه.
وفي هذا الصدد قد يترقى ضابط الأمن إلى مسؤول أمني إذا كانت خدماته جليلة، وولاؤه كلبياً، كما حدث مع رستم غزالة، الذي كان ضابط أمن كتيبة، ثم ترقى إلى أن وصل لرئاسة الأمن العسكري، لكنه حين “لعب بذيله” قليلاً، قاموا بشقه إلى نصفين، وسجلت الحادثة ضد مجهول.
هذا الكلام ليس نوعاً من التبلي أو الإجحاف بل وصف لواقع، عاشه السوريون عقودا في ظل دولة عصابة لا مؤسسات.. دولة عائلة فاسدة لا دولة قانون!