من المؤكد أن إيران كانت تفضل سياسة «التقية» ولم تسعد بإعلان روسيا أنها تستعمل قاعدة عسكرية داخلها، فهذا أشعر الإيرانيين بالإحراج؛ إذ لم يكن يجب أن يعرف العالم، فإذا بوزارتي الدفاع والخارجية الروسيتين تفاجئان إيران، لكن من أجل حماية حليفها الأسد لا وقت أمام إيران لاستعراض عضلاتها على روسيا، فطيران الأخيرة ضروري لحماية النظام في سوريا كما القوات الإيرانية وحلفائها، لذلك فإن الطائرات الروسية ستعود لاستعمال القاعدة الإيرانية إنما بعد إيجاد إخراج أفضل لا يحرج «الثورة المكتفية ذاتيًا»، وبعد تهدئة البرلمان والشارع.
بسبب بشار الأسد، فإن سوريا واقعة بين ناري دولتين؛ واحدة يشدها جنون استرجاع الماضي، وأخرى فاقدة المصداقية. روسيا تشعر أن الوقت مناسب لتحقيق طموحات سابقة، رغم أزمتها المالية والاقتصادية. بعد القاعدة العسكرية في إيران، قال مصدر في وزارة الدفاع الروسية إن حاملة الطائرات (الوحيدة) «الأدميرال كوزنتزوف» تخضع لإصلاحات حتى تكون جاهزة في نهاية سبتمبر (أيلول) المقبل لعمليات طويلة المدى على الساحل السوري. أيضًا دعت موسكو أنقرة لتوفير منفذ لها في قاعدة إنجيرليك، في محاولة لتوسيع نفوذ روسيا في الشرق الأوسط. القاعدة التابعة للحلف الأطلسي تحتوي على ما لا يقل عن 50 رأسًا نوويًا يحمل كل منها مائة ضعف القدرة التدميرية لقنبلة هيروشيما.
إيغور موروزوف، عضو لجنة الشؤون الدولية في مجلس الشيوخ، قال: «القاعدة الثانية ستكون إنجيرليك، وسيكون هذا انتصارًا آخر لـ(الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين». (صحيفة «إيزفستيا» – 20 أغسطس/ آب الحالي). وقال سيناتور آخر، هو فيكتور أوزيروف (لوكالة «نوفوستي»): «قد لا تحتاج روسيا لإنجيرليك، لكن هذا القرار يكشف نيات تركيا في العمل مع روسيا لمكافحة الإرهاب».
وبالنسبة إلى إيران، ففي وقت تحاول فيه كل من روسيا وإيران تقليل الطموحات الإقليمية، إلا أن مراقبين سياسيين يرون في الأفق استراتيجية روسية أبعد. يقول مصدر روسي: «هناك إمكانية لتوسيع الغارات الجوية الروسية بحيث تشمل العراق». سوريا مهمة، لكن هناك ما هو أكثر من ذلك. روسيا تريد بسط نفوذها على كامل المنطقة، وأن تكون لها قواعد في كل مكان.. تريد دفع الأميركيين خارجًا لتصبح القوة المهيمنة في المنطقة.
يوم الاثنين الماضي أعلن ناطق باسم الخارجية الإيرانية وقف التحرك الروسي من الأراضي الإيرانية، وردًا على سؤال حول عدم إعلان إيران أولاً عن الوجود الروسي، ظهر وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان مرتبكًا، وقال: «الروس مهتمون بإظهار أنهم قوة عظمى، ويريدون ضمان حصة لهم في المستقبل السياسي لسوريا». دهقان نفسه كان قال في مؤتمر صحافي يوم السبت الماضي إن إيران مستعدة لأن توفر قاعدة جوية ثانية لروسيا. ودافع بشكل قاطع عن استخدام الروس قاعدة همدان على أنه يأتي وفقًا للمعايير الدولية في الحروب التقليدية. وأعلن دهقان في محاولة لتهدئة المعارضين الإيرانيين في البرلمان كما في الشارع، أن بلاده تسلمت كامل صفقة صواريخ «إس – 300». لكن وسائل إعلام إيرانية قريبة من «الحرس الثوري» أشارت إلى أن القوات المسلحة الإيرانية «اشترت» من روسيا رشاشات «إيه كيه – 103»، والمعروف أن الأسلحة الصغيرة لا يشملها بالمنع القرار الدولي «2231».
وتمادى دهقان في شرح الإقدام الإيراني، فقال إن بلاده «تقود التحالف الذي انضمت إليه روسيا، والآن من الممكن لتركيا العودة عن سياساتها الخاطئة والعدائية تجاه سوريا والانضمام إلى التحالف».
يقول مصدر روسي: «فوجئت بإعلان وزارة الدفاع الروسية أننا في إيران. اعتدنا على سرية المؤسسة العسكرية الروسية. أعتقد أن الإعلان كان سياسيًا لنثبت للعالم أن روسيا وإيران عسكريًا معًا».
القاعدة الإيرانية مهمة لروسيا، لأن مزيدًا من القصف يعني مزيدًا من الأراضي. وقال مسؤول إيراني إن الترتيب الروسي – الإيراني حدد سوريا، لكنه كان استراتيجيًا، وتحذيرًا للدول التي تدعم الإرهاب والتي تريد الإطاحة بالأسد.
تبعد القواعد الروسية 3 آلاف كيلومتر عن سوريا. في حين أن انطلاق الطائرات من همدان يقلص المسافة إلى 700 كيلومتر، وهذا يعني أن طائرات «توبوليف – 22» تستطيع زيادة حمولتها.. من روسيا تحمل ما بين 5 و8 أطنان من الذخيرة، بينما من إيران تصل الحمولة إلى 22 طنًا. ثم إن طائرات «سوخوي – 34» لا تستطيع أن تصل إلى سوريا من روسيا من دون التزود بالوقود في الجو.
لا يعطي محدثي الغربي أهمية لكل هذه التفاصيل، بل يقول إن التوقيت متصل بالوضع المهترئ للأسد وتقدم الثوار في منطقة حلب، مما تطلب استجابة فورية. وقد يكون التوقيت نابعًا من الخسائر التي تكبدها «الحرس الثوري» والقوات البرية الإيرانية ومقاتلو «حزب الله» في سوريا، ودفع هذا إلى شكوى الإيرانيين من أن التغطية الجوية الروسية غير كافية. لكنه يرى تحسنًا للعلاقات بين روسيا وإيران، خصوصًا في تعاونهما لإنقاذ نظام الأسد. ثم إن ميخائيل بوغدانوف، الممثل الخاص لبوتين في الشرق الأوسط وأفريقيا، التقى أخيرًا محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، وتباحثا حول تعزيز التعاون الإقليمي. كما أعلن عن أن بوتين سيزور طهران في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
يتوقع محدثي ألا تطول القطيعة الإيرانية لروسيا. ويقول إن روسيا الآن في خضم مناورة كبيرة في البحر الأبيض المتوسط وبحر قزوين، والإيرانيون يشاركون في جزء من مناورات قزوين.
إن العلاقة بين روسيا وإيران، حتى بعد ضجة همدان التي كشفت عن عمق الخلافات داخل القيادات الإيرانية، لا يمكن ترجمتها بتحالف أو معاهدة، فالدولتان مصالحهما متعارضة وأهدافهما مختلفة والشكوك متبادلة بينهما، حتى عندما يتعلق الأمر بسوريا، والتحسن في العلاقات بينهما لا يعكس أكثر من صفقات مالية.
التعاون الآن تستغله الدولتان لتوجيه رسالة إلى الولايات المتحدة والغرب والخليج العربي بأنهما الأقوى تأثيرًا في المنطقة، وأنهما تلعبان دورًا محوريًا في تشكيل النظام الجديد. أميركا وصفت الخطوة بالمؤسفة إنما غير المستغربة، ومخالفة للقرار الدولي.
خلافًا للتقارير، فهذه ليست المرة الأولى التي تستعمل فيها روسيا قاعدة همدان؛ إذ كشفت الأقمار الصناعية في ديسمبر (كانون الأول) 2015 عن قاذفات روسية في القاعدة ذاتها. وفي الشهرين الماضيين جرت اجتماعات رفيعة المستوى بين إيران ومسؤولين روس، حيث ناقش الجانبان «سوريا»، وزيادة التعاون الثنائي، وشارك علي شمخاني، مسؤول الأمن القومي الإيراني، في الاجتماعات التي جرت بين وزيري الدفاع الروسي والإيراني في طهران في شهر يونيو (حزيران) الماضي، وكان وزير الدفاع السوري شارك في جزء منها. وأتبع شمخاني ذلك برحلة إلى موسكو، حيث التقى كبار مسؤولي وزارة الدفاع. وكان شمخاني أكد للإعلام الإيراني خبر استعمال الطائرات الروسية للقاعدة الإيرانية، ووصف التعاون الروسي – الإيراني ضد الإرهاب بأنه «عمل استراتيجي»، وأشار إلى أن إيران ستضع كل منشآتها تحت تصرف روسيا «في حربها ضد الإرهاب»، وقال إن «التعاون الموسع سيستمر حتى القضاء الكامل على الإرهاب». بعد إعلان دهقان وقف استعمال روسيا القاعدة الإيرانية، عاد شمخاني ليؤكد أن التعاون مع روسيا استراتيجي وأبعد من الإرهاب.
في هذه الزحمة من التصريحات الإيرانية المتناقضة، اختفى صوت الجنرال قاسم سليماني.
إن التعاون الروسي – الإيراني مستمر، ويعني أيضًا أن الدولتين لن تخففا من دعمهما للأسد، وأنهما على استعداد لتعزيز تعاونهما العسكري بطرق جديدة إذا لزم الأمر. الحرب في سوريا في لحظة حرجة، قوات النظام والقوات والميليشيات الموالية له، وقوات المعارضة، تتصارع من أجل السيطرة على حلب. وقرار إيران السماح علنًا بقوات أجنبية فوق أرضها، دليل على رغبتها في تحقيق مكاسب استراتيجية، وألا تذهب التكلفة المالية العالية لتورطها في الحرب السورية سدى، حيث خسرت أيضًا أكثر من 400 من «الحرس الثوري» وعددًا من الجنرالات.
من جانبها، تريد روسيا ترجيح كفة المعركة لصالح حليفها الأسد. معركة حلب لن تحسم، إنما انفجر الصراع الداخلي في إيران بين علي شمخاني وقاسم سليماني، والذي أشعل النار بينهما هو الرئيس حسن روحاني الشمخاني الميول.
*نقلاً عن صحيفة “الشرق الأوسط”