يزيد صايغ
دخل النزاع المسلّح في سورية مرحلته الأخيرة، بعدما بدا لأمدٍ طويل وكأنه دخل نفقاً لا نهاية له. صحيح أنه لا يزال أمامه شوط ليقطع: فالقتال سيستمر على الأرجح لعام أو عامين في أنحاء مختلفة من البلاد (وستتواصل الحرب ولا شك ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»)، وستمضي قدُماً أيضاً المناورات السياسية المعقّدة التي يصعب التنبؤ بها بين القوى الخارجية، ويبقى الحل الرسمي المتفاوض عليه بعيد المنال، لكن الصحيح أيضاً أن التحوّل في الموقف التركي منذ الصيف الفائت، وضع المعارضة السورية بثبات على مسارٍ لم يعد بالإمكان قلب وجهته، حتى ولو تغيرّت السياسة التركية مجدداً. فما يلوح في الأفق الآن أمام المعارضة السورية هو خيار صعب يتأرجح بين الدمار، أو الانخراط في هيئات الدولة المركزية التي لا يزال يرئسها بشار الأسد.
يشــي المساران الديبلوماسيان الحاليان بمسار الأحداث في الآتي من الأيام، حيث تتركّز الأنظار على المحادثات المُزمع إجراؤها في جنيف في وقت لاحق من هـــذا الشهر، لكنها في الواقع لم تكن أبداً هي التي ستُشكّل يوماً المدخل إلى الحل السياسي. وأكد وزير الخارجية الأميركي جون كيري، قبل إخلاء منصبه، أن العملية التفاوضية التي دشّنتها روسيا وتركيا في الآستانة، عاصمة كازاخستان، في 23 كانون الثاني(يناير)، يجـــب ألا تحـــل مكان جنيف، وهو الموقف نفسه الذي ردّده أيضاً المبعوث الدولي الخاص ستيفان دي ميستورا الذي أضـــاف: «إننا نحن (الأمم المتحدة) الطرف الفاعل الرئيس في ما يتعـلّق بالعمليـــة السياسية». بيد أن كل هذا لم يكن أكثر مــن مجرد تمنيـــات، إذ ليـــس فـــي مقدور أي من القوى الخارجية حمل الأسد على القبول بتقاسم حقيقي للسلطة.
علاوة على ذلك، فإن التركيز على مسألة ترسيخ وقف إطلاق النار هو ما يضفي الأهمية على مسار الآستانة. وقد حاجج الكثيرون، عن حق، أن الراعيين الروسي والتركي لم ولن يتمكّنا من تجسير الهوة بين المعارضة والحكومة السوريتين في الأمد المنظور. بيد أن هؤلاء يخطئون الهدف: فمحادثات الآستانة تدل على مسار جديد في النزاع، خلقه التحوّل المفاجئ في السياسة التركية منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز(يوليو) الماضي التي دفعت الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تنفيس الأزمات الخارجية من أجل التركيز على التحديات الداخلية. وقد عنى ذلك التخلّي عن السعي إلى الإطاحة بالأسد، على رغم مواصلة الحديث العلني عن ذلك، كما عنى تطويع المعارضة السورية إلى احتياجات السياسة الداخلية والخارجية التركية.
أما بالنسبة إلى المعارضة، فإن درب الآستانة يقـود حكـماً إلى المجابهة الشاملة في شمــال غربــي ســوريـة مع المعسـكر الجهـــادي الذي التأم شـــمله أخيراً تحت راية «هيئة تحـرير الشام»، وهــو الإطـــار الشامل الجديد الذي تُهمين عليــه «جبهة فتح الشام» المعروفة سابقاً بجبهة النصرة المـــرتبطة بتنظيم القاعدة. ويعتقد مراقبون مُطلعون أن ميـــزان القوى الميدانية قد انقلب لمصلحة هذا الطرف الأخـــير، وأن الهزيمة ستحصر المعارضة في جيب صغير نسبـــياً في محاذاة الحدود التركية والكانتون الكردي في عفــــرين. هذا إضافة إلى أن رفض الانسياق إلى مواجهة مـــع هيئة تحرير الشام، سيحرم المعارضة من الحماية والدعم من قبل تركيا والولايات المتحدة ويجعلها هدفاً سهلاً لنظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين.
على رغم قتامة هذا المنظور، فإن ما قد يتبعه لاحقاً سيكون أشد مضاضة بكثير. إذ إن مسار الآستانة يتطوّر على شكل خطوات قتالية يلتزم الأفرقاء بتنفيذ كلٍ منها، فيمضون مع كل خطوة على مسار يصعب باستمرار التراجع أو التخلّي عنه. فإذا نجحت المعارضة السورية باجتياز الامتحان الأول، أي المواجهة مع المعسكر الجهادي، ستتعرّض إلى ضغوط متصاعدة لتتخذ الخطوات التالية على المسار نفسه، ما سيؤدي بالضرورة إلى إعادة الانخراط في مؤسسات الدولة التي يرأسها الأسد. هذه هي المحصلة الحقيقية للتحوّل وإعادة الاصطفاف في السياسة التركية، سواء كان ذلك مقصوداً أم لا.
لقد باتت معالم الخطوتين التاليتين واضحة للعيان. فهناك أولاً فكرة الاعتراف بمجلس محلي تقوده المعارضة في محافظة إدلب، بدعم تركي، تقبل روسيا التعامل معه بعد أن كانت قد أبدت اهتمامها باللامركزية كأحد مفاتيح الحل السياسي، عبر إعداد مقترح بهذا الشأن في آذار(مارس) 2016. كما أعربت روسيا منذ إطلاق مسار الآستانة عن استعدادها للتعامل مع المجالس المحلية في مناطق سيطرة المعارضة، بهدف تسهيل وصول المساعدات الإنسانية وإطلاق عملية إعادة بناء الاقتصاد.
يشكّل إنشاء الآليات المشتركة عنصراً أساسياً في المقاربة الروسية التي يمكن الأسد قبولها. فهو يعارض بوضوح مبدأ المشاركة في السلطة لما في ذلك من اعتراف بالمعارضة كطرف شرعي له حق المطالبة بذلك، ومن تقويض لحجة النظام بخوض حرب ضروس لإحباط هذا المطلب. غير أن التعامل مع مجلس محافظة تقوده المعارضة أمر مختلف يمكن استيعابه، طالما انخرط في هيئات الحكم المحلي التابعة للدولة، ما يشكّل إقراراً بسيادة سلطة الأسد. وهذا، على أي حال، أساس المئات من اتفاقيات «المصالحة» التي سمح بموجبها النظام للأهالي المحليين الموالين للمعارضة بالاحتفاظ بدرجة من الاستقلالية الإدارية وبالحصول على بعض الخدمات العامة والتمويل.
أما الخطوة الثانية، فهي ما يشير إليها الحديث المتكرر في أوساط المعارضة عن تشكيل «جيش ثوري وطني» موحد، ما يعني التوجّه إلى مسارٍ موازٍ يوحي بانخراط مجموعات المعارضة المسلحة في شمال غربي سورية أيضاً في مؤسسات الدولة. لا بل يشي حضور مراقبين أردنيين في جولة محادثات الآستانة الثانية في 6 شباط (فبراير) باحتمال ضم المعارضة الجنوبية كذلك إلى هذا المسار. ووفق أحد ناشطي ومحللي المعارضة المخضرمين، فقد اقترحت تركيا خضوع المجموعات المسلحة إلى حكومة انتقالية تتشكّل بعد اتفاق السلام، غير أنه لم يعد ممكناً في سياق الظروف الحالية أن تقوم مثل هذه الحكومة سوى بإشراف الأسد.
لقد خلق النظام أطراً تتيح استيعاب «الجيش» الموحّد للمعارضة والسماح له ببعض الاستقلالية التنظيمية: الفيلقان الرابع والخامس التابعان للجيش واللذان تم إنشاؤهما منذ العام 2015 لاحتواء «قوات الدفاع الوطني» والميليشيات الأخرى المدعومة من النظام، إضافة إلى التشكيلات القتالية ذات المهام الخاصة. كما سمح النظام لمقاتلي المعارضة بالبقاء والاحتفاظ بأسلحتهم بعد «المصالحات» في مناطق عدة، فقد يقبل بتوسيع هذا النموذج لاحتواء تشكيلات المعارضة العسكرية الأكبر، في إطار نوع من الحرس المحلي على صعيد المحافظة حيث تتواجد. ثم أن تأسيس فرقة نظامية جديدة تضم قوات النظام المتفرّقة في مدينة حلب في كانون الثاني (يناير)، يدل على احتمال إضافي هو تحويل قوات المعارضة في الشمال الغربي والجنوب إلى وحدات نظامية أخرى مرتبطة بأماكن جغرافية محددة.
قد تختلف تفاصيل هذا المسار العام، وهناك عوامل كثيرة قد تعرقله. فالمعارضة المسلحة قد تخسر المواجهة مع هيئة تحرير الشام، وقد ينتهز النظام ذلك الاقتتال ليتقدم داخل محافظة إدلب. وهذا سيشكّل امتحاناً قاسياً للتفاهم بين روسيا وتركيا. لكن حتى في أحسن الأحوال، ستجد المعارضة نفسها منحصرة في فضاء سياسي وعسكري وجغرافي متضائل باستمرار، وتخسر المزيد من النفوذ والقدرة على ممارسة الضغط المضاد، من دون مكاسب أو نتائج مضمونة في المقابل.
ربما تكون المرحلة الأخيرة من النزاع السوري مديدة، لكن خيارات المعارضة تضمحل بوتائر متسارعة. وقد سعى أحد مراكز الأبحاث المؤيدة للمعارضة إلى شد العزائم عبر التأكيد على أنه «على رغم أن التغيير أصبح معطى واقعياً في السياسة التركية، لكن لا يمكن أحداً أن يفرض على المعارضة تسوية مُجحفة لا تريدها». بيد أن مركزاً آخر استنتج بواقعية أكبر أن المعارضة «باتت بالفعل مهزومة استراتيجياً».
ولعل العزاء الوحيد هو أن المعارضة السياسية العريضة، والحراك الاجتماعي القاعدي، والائتلافات العابرة للطوائف والإثنيات، ستُبث فيها الروح مجدداً فقط عند انتهاء النزاع المسلح. صحيح أنه من العسير التنبؤ حول متى قد يحدث ذلك أو حتى من الصعب ضمان حدوثه، لكنه سرعان ما يعاود الظهور بصفته الأمل الوحيد لتحقيق التغيير المستقبلي في سورية.
*نقلاً عن “الحياة”