يصادف نهاية هذا الأسبوع وفق التقويم العبري القديم عيد المساخر اليهودي، الذي اعتاد اليهود على إحيائه منذ أكثر من ألفي عام، إذ يعتقدون أنهم في هذه الأيام قد أنجاهم الله من الإبادة في عهد الإمبراطورية الفارسية، وأنقذهم من الذبح الذي كان مكتوباً عليهم، ويطلقون عليك اسم “بوريم”، وهو العيد الأكثر شعبية وحيوية بين اليهود، حيث يعتقدون أنهم نجوا فيه جميعاً بأعجوبةٍ كبيرة، بعد أن صدرت الأوامر الإمبراطورية بإبادتهم ذبحاً، ولهذا فإنهم يحتفلون في هذه الأيام بحيويةٍ ونشاطٍ، وحبورٍ فرحٍ، وسعادةٍ وطرب، ويقيمون الولائم ويوزعون الحلوى، ويتبادلون التهاني بالسلامة والنجاة.
ويعتقدون بمناسبة هذا اليوم “بوريم” أن الله قد باركهم وحفظهم، وحقن دماءهم وصان أرواحهم، وأنه قد مكنهم على إمبراطور الفرس فانتصروا عليه وغلبوه من غير قتالٍ، وانتصروا ببركة أطفالهم على الظلم والاستبداد والقهر والذبح والتيه والضياع، ولهذا يأتي أطفالهم وصغارهم وقد تنكروا بأقنعة متنوعة، ولبسوا ملابس مختلفة، ليحيوا ذكرى نجاتهم من استبداد الحاكم الفارسي في ذلك الزمان، الذي أعد العدة لإبادتهم وجهز السيوف لذبحهم، وفي المساء استكمالاً لفرحهم بالحياة واستغراقاً في عيدهم، فإنهم يشربون الخمر حتى يسكروا وتذهب عقولهم، ويوزعون على بعضهم الهدايا وسلال الطعام والحلوى ومعجنات الخشاش المثلثة.
لكن اليهود الذين يحتفلون بالانتصار على الاستبداد، وبالنجاة بأنفسهم من الظلم، وبالخروج من المحنة سالمين غانمين، وبدلاً من شكر الرب على تفضله عليهم وحمايته لهم، فإنهم يمارسون اليوم الظلم بأيديهم، والقهر بأنفسهم، ويعذبون شعباً مظلوماً، ويغتصبون حقه، ويحتلون أرضه، ويطردونه من دياره، وهم الذين يحتفلون بانتصار الحق على الباطل، والضعف على القوة والاستبداد، ويدعون أن الله قد أنجاهم لصدقهم، وأنقذهم لطيبتهم، وخلصهم لبساطتهم، وأن كيد الإمبراطور الفارسي ووزيره الأول قد بطل، وأن سعيهما قد فشل، ومع ذلك فإنهم لا يكفون عن الظلم، ولا يتوقفون عن الاعتداء، ويصرون على استعادة الماضي بعد قلب حقائقه، وتغيير شخوصه، واستبدال معالمه، ثم يدعون أنهم على الحق، وأن الله يبارك عملهم ويحضهم عليه، ومن أحبارهم من يرى أن رضى الرب لا يتحقق بغير قتل الفلسطينيين وإبادتهم.
إنهم اليوم في أرضنا الفلسطينية وفي أوطاننا التاريخية، وبلادنا العزيزة، فلسطين المحتلة المغصوبة، والمستوطنة المنكوبة بهم والمبتلاة بوجودهم، يحتفلون ويرقصون ويغنون، ويفرحون ويبتهجون ويضحكون، ويلعبون ويركضون ويتقافزون، ويأكلون ويشربون ويسكرون، ويحيون أياماً يرونها جميلة، تعيدهم إلى ماضيهم، وتربطهم بتقاليدهم وعاداتهم، وترجعهم إلى أيامٍ كان فيها أنبياؤهم وملوكهم يحيونها ويجمعون شعبهم عليها، ويوحدون أنفسهم تحت راياتها، ويمارسون طقوسهم الدينية التي تعلموها وتوارثوها، ويصرون عليها رغم أنها تفتقر إلى الأدب واللياقة، ويعوزها الخلق والطيبة والسماحة.
إنهم في الوقت الذي يحتفلون فيه بعيدهم في فلسطين المحتلة، فإنهم يضيقون على الفلسطينيين ويغلقون عليهم مناطقهم، ويفرضون عليهم الحصار في مدنهم، ولا يسمحون لهم بحرية التنقل والحركة، إذ ينصبون على مداخل مدنهم وقراهم الحواجز العسكرية، ويمنعونهم من مغادرتها والخروج منها، في الوقت الذي ينشرون فيه آلاف العناصر من الجنود ورجال الشرطة، بعد أن يعلنوا إغلاق المناطق لعدة أيامٍ بسبب العيد.
لا يوجد مكانٌ لا تنتشر فيه قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي، فجنودهم ورجال الشرطة ينتشرون في الأماكن العامة، في محطات الحافلات ومواقف السيارات، وأمام المنتزهات وفي الحدائق، وعند المقاهي والمعابد، وعلى كل الطرق والشوارع التي تحاذي القرى والبلدات والمدن الفلسطينية.
أما الحرم الإبراهيمي فإنهم يحيلونه في هذه الأيام كنيساً يهودياً، يمنعون المسلمين من الدخول إليه والصلاة فيه، بل ويمنعونهم من رفع الآذان وإعلان مواقيت الصلاة، بينما تدخل إليه جماعاتٌ يهودية كبيرة، تحيي طقوسها وتعقد احتفالاتها، وتتلو كتابها، وتعلن أن هذا الحرم لهم ولأنبيائهم من قبل، كما أن المدينة قد اشتروها وعاشوا فيها، وعلى أرضها قامت مملكتهم ودفن فيها ملوكهم وأنبياؤهم.
يأتي عيد “البوريم” اليهودي هذا العام في ظل الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، التي قتل فيها الإسرائيليون أكثر من مائتي فلسطيني جلهم من الشباب والأطفال، بينما أطفالهم اليوم يلبسون الجديد والغريب، ويضعون على وجوههم المساحيق والألوان، ويحملون الهدايا والأكياس والسلال، ويلعبون ويجرون ويتراكضون، وغيرهم يحتسون الخمر ويحملون الهدايا ويوزعون الحلويات، بينما جيشهم يمعن في قتل الفلسطينيين، ويستهدف أطفالهم ويقتل نساءهم، ويتعمد النيل منهم بقصد اجتثاث وجودهم، وتدمير مستقبلهم، وحرمانهم من حق الحياة، وهم أصحاب الوطن وملاك الأرض، وكأن عيدهم فرحةً لهم ولعنةً علينا، واحتفالاتهم سعادة بينهم وأتراحاً بيننا، وكأن يوم عيدهم حريةً وانطلاقاً وعلى شعبنا قيداً وسجناً وحصاراً وأغلالاً.
لكن يبدو أن هذه هي طبيعتهم، وهذه هي جبلتهم التي فطروا عليها وتربوا ونشأوا في ظلها، فهم يرقصون على جراح غيرهم، ويغنون على آهات سواهم، ويفرحون على معاناة ضحاياهم، ولا يبالون بالآلام التي يقاسيها غيرهم، ويشكوا منها جيرانهم، بل إنهم يستغلون الآخرين ليفرحوا، ويستنزفونهم ليحتفلوا، ويسخرونهم لخدمتهم والسهر على راحتهم، فهذه عاداتٌ قديمة عرفوا بها ونسبت إليهم، وقد عانى منها مسيحيو أوروبا الذين جاوروهم لعقودٍ، وعاشوا في بلادهم ردحاً طويلاً من الزمن، لكنهم اشتكوا من سوء عاداتهم، وقبح تقاليدهم، وفحش معاملاتهم، وهو ما شكا منه الفرس منهم في ظل امبراطوريتهم القديمة، وتسبب في غضبتها عليهم ونقمتها على أتباعهم.
الخرطوم في 24/3/2016