في مصر وسوريا ولبنان والعراق وليبيا أرصدة كبرى تركها لنا جدودنا وديعة. لكنها مصادرة كما تصادر أميركا ودائع الدول التي لا تعجبها. كان يجب أن تستغل هذه الأرصدة في تجديد المؤسسات وتحديثها وخفض نسبة الفقر ودعم أسعار الطحين والأرز والحليب. لكننا تركناها للإهمال أو الخوات أو ببساطة منعنا الناس من الوصول إليها، كما يحدث لقلعة بعلبك أو حصون حلب.
في مصر أكبر مخزون للآثار في العالم. ويجب أن يعادل دخلها من السياحة دخل بلد متوسط من النفط. ويجب أن يعثر عشرات الآلاف من المصريين على أعمال متفاوتة في هذا القطاع. ماذا فعل «محررو» مصر في المعارضة وفي السلطة؟ استهداف كل موقع أثري يدر الرزق والعمل. ماذا يفعلون في سوريا؟ يبيعون آثارها. ماذا يفعلون بصيف لبنان؟ يهددون بخطف الأتراك في بدايته ويخطفونهم قبل نهايته.
ذهبت إلى البندقية مع زوجتي عام 1973. وبعد ثلاثة أيام قلت لها ماذا يلفت نظرك في هذه الإمارة القديمة. قلت لها، ماذا رأينا خلال ثلاثة أيام؟ جداول وجنادل كالتي غنى لها عبد الوهاب. ولا شيء آخر. قصور ومتاحف. كيف تعيش هذه المدينة؟ بالطبع ليس على دخل نفر من صيادي السمك. وماذا أيضا؟ لا شيء. العشب لا ينبت في المياه التي تعوم فوقها. ولا الأشجار.
تعيش حياة مريحة على الرصيد الذي تركه الأولون. والناس من أنحاء العالم تأتي لا لرؤية أصحابها الحاليين بل لمشاهدة الأحجار واللوحات والألوان التي تركها أسلافهم. ترك أهل البندقية لأحبائهم محفظة استثمارية ليست شيئا بالمقارنة مع كنوز مصر. لكن محمد مرسي عين محافظا يكره الآثار ويبغض تاريخ مصر وما بقي من مظاهره. ولو استمر في منصبه لأصدر قرارا بإلغاء أسوان وتفكيك الكرنك.
كره المصريون الطابع الاستعماري للحملة النابليونية. لكن «آثارها الجانبية» كانت لها فائدة كبرى في بناء الدولة المصرية الحديثة: المطبعة وفك اللغة الهيروغليفية. جاء العلماء من أوروبا وأميركا يمضون السنين في الرمال بحثا عن حجر هنا وملعقة ذهبية هناك. وعندما انتهوا، أوشكوا، لأن لا نهاية لما قد يُعثر عليه، كانت مصر القديمة قد بانت كأبهى قطعة في التاريخ.
قبل سنوات قمنا برحلة مدهشة في مدن سوريا الأثرية. وكانت تلك الآثار الرائعة موكلة إلى مجموعة من الأدلة البارعين والفقراء. وفي كل قلعة دخلناها كنا نلحظ، أو يراد لنا أن نلحظ، أن رجل مخابرات قد خف إلى المكان بكامل الأناقة وربطة العنق.
محزن أن يذوب التاريخ البهي بين أقدام رجال لا قيمة لديهم لشيء أو لأحد. تعيش البندقية من بضعة جداول وجنادل وتعاني مصر الفقر على ضفاف النيل.
منقول عن الشرق الاوسط