محمد بن عبد اللطيف ال الشيخ: الجزيرة السعودية
أيام قلائل وتبدأ المعركة التي تعوّدنا عليها كل عام، جحافل ممن يُسمّون أنفسهم بالمحتسبين، يغيرون على (معرض الكتاب)، يهددون هذا ويتوعّدون ذاك، في محاولة مستميتة للحفاظ على الجهل وإبعاد إنسان هذه البلاد عن القراءة والاطلاع.
السؤال الذي يسأله كل عام أغلب أصحاب دور النشر القادمة من خارج المملكة، وهم يرون جحافل الجهل هذه تعكِّر صفو المعرض: لماذا يكره هؤلاء الكتاب، ولماذا يخافون منه؛ وهل يُعقل أن يتسمّى هؤلاء (بطلبة علم) أو دعاة أو وعّاظ، وهم ألد أعداء العلم والقراءة والثقافة والاطلاع؟.. ثم أليست الشعوب في كل العالم العربي، بما فيهم من يتسمون بالإسلاميين، ومنهم سلفيون، تُطالب الآن بالحرية؛ طيب لماذا هؤلاء في بلادكم يسعون ويدعون على رؤوس الأشهاد إلى مصادرة الحرية في أسمى معانيها، في معرض الكتاب، الذي يُكرِّس حق القراءة والاطلاع والثقافة للبشر؟
الغريب – وهذه بصراحة من المفارقات – أن تسعى الدول القمعية إلى مصادرة الكلمة، وتتبرّم الشعوب، بينما يقوم بقمع الحرية ومصادرة الكلمة ومحاربة الكتاب في بلادنا، ليس السلطة الحاكمة، وإنما أناس من عامة الشعب، يقولون إنهم (محتسبون)، انتدبوا أنفسهم كمتطوعين لتنفيذ مهمة الحرب على الكتاب والحفاظ على الجهل وعدم التفريط بالغفلة والسذاجة؛ ليظل ذهن الإنسان السعودي مُستباحاً لهم ولأساطينهم، يتحكّمون فيه تحكُّم الملاك في أملاكهم، فيوجهونه ويشكلونه وينفردون به كما يريدون. لذلك فإنّ الإنسان القارئ المطلع هو عدوّهم المبين، والإنسان البسيط الساذج الجاهل هو غاية المنى، وهو الإنسان المثالي والمطلوب.
قال صاحبي وكنا نتحدث عن بساطة وسذاجة هؤلاء القوم، وغرابة مطالبهم، في محاولة لتحليل دوافعهم، قال: أساطينهم، ومن يوجهونهم، يعلمون يقيناً أنّ مصادرة الكتاب، وإقامة الأسوار حول الأذهان لكي تبقى جاهلة أمر مستحيل، فقد دكّت أسوار التقوقع ثورة الإنترنت والاتصالات والقنوات الفضائية التي لا تستأذن أحداً عند الدخول، فقد انتهى عصر مصادرة المعرفة ولن يعود، غير أنهم أرادوا من هذا الشغب، والمشاكسات، أن يُثبتوا أنّ ثمة سلطة حسبة موازية لسلطة الحسبة المعتمدة من الدولة، وهم بذلك لا يُمارسون عملاً احتسابياً كما يدعون، وإنما عملاً سياسياً محضاً، يُعبرون فيه عن عدم (ثقتهم) بما تقوم به السلطات الحكومية، سواء في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في مجالات الدعوة والوعظ والإرشاد؛ ولأنّ هذه البلاد قامت على تحكيم الشريعة، والذّود عن حياض العقيدة، فهم (يُزايدون) على شرعيتها في ممارسة محض سياسية.
إنّ هناك أكثر من طريقة للجم مثل هذه التصرفات (السياسية) الرعناء، خاصة وأن القضية التي يُدافعون عنها قضية خاسرة اجتماعياً وثقافياً بامتياز، فلا أعتقد أن هناك من سيتعاطف مع هؤلاء إلا قلة قليلة من أشكالهم لا وزن لهم، وإلاّ فهل هناك عاقل يقف عقبة كأداء ضد العلم والمعرفة والقراءة والثقافة والاطلاع؟.. لذلك فإنّ مجاملتهم وتركهم، يُعكرون أجواء هذه الممارسة الثقافية كل عام فيه تفريط بسمعة البلاد؛ خاصة وأن من تتعامل معهم في معرض الكتاب، سواء من أصحاب دور النشر، أو المرتادين لهذه المعارض، هم نُخب مثقفة واعية، ومثل هؤلاء المحتسبين (نتوء مشوه) في مسيرتنا التنموية، يجب إذا لم نستطع علاجه واجتثاثه، أن نمنعه على الأقل من تشويه سمعة بلادنا في مثل هذه المحافل الثقافية.
لا بد أن تُكبح جماح هؤلاء بأية طريقة، ولن يخسر في النهاية إلا هم، ولن يتعاطف معهم إلا دعاة الجهل وأساطين الظلام، وخسارة مثل هؤلاء هي غنيمة بكل المقاييس.
إلى اللقاء.