بقلم: د. زهير سالم
كانت المبادرة التي أطلقها المجلس الإسلامي السوري تاريخية رائدة بتوقيتها وبمضمونها ، بمنطلقاتها وآفاقها ، وبمبادئها وهوامشها على السواء .
وهي ( مبادرة تاريخية ) سبق إليها المجلس الإسلامي السوري بحق ؛ في حين تأخر الكثيرون على الساحة السورية من تولي زمام اللحظة . اللحظة التي تجسدها سنوات الألق والمجد السورية ، التي سينظر إليها عبر شرفات التاريخ كومضات تألق هذا الشعب ، الذي طالما حدثتنا النصوص الشريفة عن دوره وعن مجده وعن ظهوره الذي يدور مع التاريخ حيث دار . والذي طالما قرأنا في أسفار الملاحم الكبرى ، عن بطولاته وتضحياته وانتصاراته . ويكفي أن نذكر العالم أجمع ونحن في رحاب المجلس الإسلامي السوري أننا في رحاب موطن ( العز بن عبد السلام ) القائد الحقيقي لمعركة عين جالوت ، التي دافعت ليس عن الشرق الإسلامي وحده وإنما عن الحضارة والإنسان في العالم أجمع …
ومبادرة المجلس الإسلامي السوري ( مبادرة تاريخية ) بحق ، لأنها أطلقت في مرحلة كثر فيها الكيد للثورة السورية ، وتشابكت فيها محاولات الالتفاف على تطلعات الشعب السوري النبيلة ، وتحول فيها هذا الكيد من كيد خفي باطن إلى كيد معلن ظاهر ، وأصبحت الدعوة إلى إعادة تأهيل ( قاتل الإنسان ومدمر العمران ) كما تقول الوثيقة معلنة ، يرددها أصحابها بلا تلعثم ولا حياء …!!
وكانت مبادرة المجلس الإسلامي السوري ( مبادرة تاريخية ) ثالثا لأنها قطعت الطريق وفي اللحظة المناسبة ، على أولئك الذين يتحدثون عن سورية ، وكأنها مزرعة من مزارع آبائهم أو أجدادهم ( ورثوها كابرا عن كابر ) ، فجاءت الوثيقة لتقول لهؤلاء وأولئك أجمعين : إن لهذه الثورة ثوارها ، وإن لهذا الوطن رجاله وهم ، مع إرادة الخير الأصيلة فيهم ، ومع الحرص على السلم الأهلي المتمكن من عقولهم وقلوبهم ، أصحابُ القرار الأول والأخير في هذا الوطن ، من غير تعسف ولا تعنت ، ولا بغي ولا عدوان .
لقد شكلت المبادئ الخمسة الضوابط َالأساسية ، لأقل ما يمكن أن يقبل به السوريون . بوصفهم مواطنين في دولة تنتمي إلى العصر ، ويريدون أن يتمتعوا بكل ما يتمتع به إنسان العصر من حقوق وحريات ..
وكان المبدأ الأول ، مبدأ أخلاقيا وحقوقيا وسياسيا ، أخذُ المجرم بجريمته ، ومحاكمته عليها محاكمة عادلة . فكل العالم العاقل يعلم أن الذي أوصل السوريين إلى ما هم فيه ، هو بشار الأسد وأركان نظامه الذين أطاعوه وأعانوه . والجريمة الفاجعة الكبرى التي وقعت في سورية ، إذا كانت لاتهمّ هؤلاء المتشاكسين على مصالحهم الصغيرة في المجتمع الدولي ، فهي تجثم على قلوب السوريين وتقلق ضمائرهم وتقضُّ مضاجعهم رجالا ونساء ، وستظل تفعل ذلك جيلا بعد جيل ، إن لم تمسح على الجراح يد القانون العادل . إن مقتل نصف مليون سوري ، وتغييب وتعذيب مئات الألوف منهم ، وتشريد الملايين من ديارهم ، ليس أمرا هينا ، ولا جريمة صغرى ، ولا مما يُتسامح فيه مع مجرم ظل الإجرام نهجه ووسيلته .
لن يُكافئ المجرم على جريمته . هذا ما تقرره الوثيقة بحزم وجزم ، ولن يقبل الشعب السوري ، صانع الثورة وصاحب قرارها ، بذلك بأي حال . وحين يرى محترفو السياسة إن بالإمكان مكافأة المجرم على جريمته فهذا يعني سقوط كل القيم الأخلاقية والإنسانية والعدلية في هذا العالم . ومن هنا جاء البند الأول في الوثيقة واضحا جازما صريحا : ( إسقاط الأسد وكافة أركان نظامه وتقديمهم للمحاكمة العادلة ) .
ويلتفت البند الثاني من الوثيقة ، إلى حقيقة ناصعة في الواقع السوري ، طالما راوغ عنها المراوغون ، وناور حولها المناورون : ( المحافظة على مؤسسات الدولة السورية ) فأي عاقل يمكن أن يقول( لا ) لمثل هذا العنوان البراق : أي عاقل يمكن أن يقول ( لا ) للمحافظة على مؤسسات وطنه البنائية الصحية والتعليمية والإدارية ؟! ومن هنا يأتي الالتفات الضروري من الوثيقة الواعية التي تقرر بجلاء :نعم للحفاظ على كل المؤسسات البنائية الإيجابية في حياة المجتمع السوري . ولا لمؤسسات القتل والترويع والتخويف والإرهاب . المؤسستان اللتان كانتا أداتين أساسيتين من أدوات الجريمة الفاجعة ، أدوات القتل والتعذيب والتشريد والتدمير . مؤسستان قامتا على جرف ، وغذيتا على مدى عقود بالحقد والطائفية ؛ المؤسسة العسكرية التي سميت زورا وبهتانا ( الجيش العربي السوري ) والمؤسسة المخابراتية المظلمة التي سميت بالباطل باسم ( المؤسسة الأمنية ) وهي إلى مؤسسة الإرهاب والتخويف والترويع أقرب . ومن هنا جاء النص المباشر في هذه الوثيقة الواعية على ضرورة تفكيك أجهزة القمع الاستخبارية والعسكرية . وبناء بدائل وطنية نزيهة تحمي السوريين ولا تخيفهم أو تعذبهم أو تقتلهم مع المحافظة على مؤسسات الدولة الإيجابية والبناءة في المجالات الأخرى .
ومن قلب الواقع السوري المدّمى ، ومن إدراك المجلس الإسلامي السوري ، لحقيقة ما يدور على الأرض السورية من قريب ، وبعد أن تحولت المعركة في سورية من ثورة شعب ضد ظالمه ، إلى حرب ( دولية وإقليمية ) تشنها دول كبرى على شعب أعزل ، في وقت يقف فيه الآخرون في العالم متفرجين . أو يحاول فيه المنحازون أصلا إلى طرف الطاغية أن يقارنوا تدخلات أفراد فوضيين ، بلا ضابط ولا ناظم ، كانوا في الأصل وبالا على الثورة السورية ومشروعها ، بتدخل دول كبرى على المستوى العالمي والإقليمي ، بعتادها الثقيل ، وأعدادها المنظمة والمدربة والممولة ؛
يعلن المجلس الإسلامي السوري مطالبته الواضحة والصريحة بإخراج كل القوى الأجنبية والطائفية والإرهابية من سورية ، وعلى رأسها الحرس الثوري الإيراني وحزب الله وميليشيا أبي الفضل العباس وكذلك ما يسمى ( تنظيم الدولة ) . ونعتقد أن من المهم أن يضاف إلى القائمة بعد أن ثبت التدخل الروسي المباشر على الأرض السورية وقوات الاحتلال الروسي البغيض .
ولقد نص المبدأ الرابع في هذه الوثيقة الجامعة على وحدة سورية أرضا وشعبا واستقلالها وسيادتها وهوية شعبها .
وهي بدهيات أولية كانت وستبقى حقائق ناصعة يجمع عليها كل السوريين العقلاء والأحرار . نقول العقلاء لأن الذين يلقون الكلام جزافا في الحديث عن تقسيم سورية لا يدركون الحقائق الجيوسياسية الضرورية لحياة الدول ونموها وازدهارها واستقرارها . ونقول الأحرار لأن التقسيم لا يفكر فيه إلا المرتهنون لإرادات خارجية لم ترد يوما للشعوب وبالشعوب خيرا . وكما إن لعبارة وحدة سورية أرضا دلالتها الجغرافية ، فإن النص على وحدة سورية ( شعبا ) دلالته الوطنية والديموغرافية والسيوسيولوجية . فالمجتمع السوري بكل من فيه مجتمع متضام موحد . والبغي القائم فيه اليوم إنما يحسب على الوالغين فيه فقط . وكذلك فإن النص على استقلال سورية وسيادتها وهويتها لها دلالاتها السياسية الواضحة في الإطار الذي نتحدث فيه .
ومن الحديث عن وحدة سورية أرضا وشعبا واستقلالها وسيادتها وهويتها ، ومن الاستفادة من التجربة العملية التي مرت بأشقائنا في العراق ، بعد الاحتلال الأمريكي البئيس ، تعلن وثيقة المبادئ الخمسة للمجلس الإسلامي السوري رفضها لأي شكل للمحاصصة السياسية والطائفية . لأنه في المجتمع المدني الموحد الذي نادت به الثورة السورية يوم هتفت منذ يومها الأول ( واحد واحد واحد الشعب السوري واحد ) ولأنه في دولة يسودها القانون والنزاهة والشفافية لا مكان للمحاصصات على أي خلفية من الخلفيات وإنما المكانة دائما للكفاءة والخبرة والاختصاص . والثغرة في عنق القوي الأمين القادر على تحمل أعبائها ….
يتبع وثيقة المبادئ الخمسة ( 2 ) …