كنا في لبنان قديما نرد كل ما يحدث إلى «الإنجليز»، ونصف ما يجري بأنه «لعبة إنجليزيّة». وعندما لم يعد هناك «إنجليز» إلا في إنجلترا، صرنا نحمّل «الحكومة» كل شيء، من الغلاء إلى العواصف. ولا مرة كان المجتمع مسؤولا. بقينا نفعل ذلك إلى أن لم يعد لدينا حكومة ومسؤولون. واكتشفنا أن معظم الخراب مسؤولية الناس، وكذلك معظم الفساد، والقسم الأكبر من سوء الخلق.
الانحطاط المستشري في الأمة نتيجة اهتراء المجتمعات لعقود طويلة. مجتمعات لم يُعرض عليها سوى الصلافة والفظاظة وثقافة الجزم. شعوب ظنت أن الحياة هي الرفض والإلغاء والتفرد وانعدام المشاركة، وأن الحياة البشرية ورقة نعوة، فردية أو جماعية، ننسى بعد توزيعها.
تواطأت المجتمعات مع جلادها حتى اقتنعت بأن الموت هو الحياة، والقتل هو الحل، والانتحار هو الفوز بالأرض والسماء. قرر كثير من الحكام أنهم آلهة، وارتضى الناس من أدوار الشعوب بالتصفيق. وفي الحاصل انتهى كل شيء إلى غنائم: أول شيء سعى إليه «ثوار» ليبيا كان موانئ وآبار النفط، وكانت السفن الكورية الشمالية في الانتظار. وفي سوريا بدأ «داعش» بالنفط والتسويق. وما بين ليبيا وسوريا تبين أن هناك مصنع أثواب برتقالية أقيم على عجل، كعلامة مميزة لإحراق الناس في الأقفاص الحديد.
سمى عبد الرحمن الراشد مدارس التجهيل «أم العلل». أليس من هزئيات الدهر أن يصل عبد الملك الحوثي إلى القصر الجمهوري بالدبابات، ثم يسمي ذلك «حلا دستوريا»؟ يا سيد، الدستور فكر ومعاهد وكتاب، وليس دبابة مصادرة. بعض الدول معدل الجريمة فيها صفر، أجل صفر. صحيح أن مهاجم يوم الأحد الماضي مولود في الدنمارك، لكن هل عاش فيها؟ أم أنه سلم نفسه إلى مجتمع يحقد على التطور والتقدم، ويفضل أن يملأ المقاهي وتجمعات التعبئة والتحريض، بحيث يصير ابن 22 عاما قاتلا بدل أن يكون جامعيا متفوقا في بلد العلم فيه مجاني، مثل كل شيء آخر، والدولة هي الأم والأب.
الطريق طويل ولا ندري ماذا يمكن أن يحدث مسافة الوصول. وقد لا نصل. قد نمضي في التفتت إلى جهات وجيوش وأحزاب ومصانع أثواب برتقالية، لأننا لا يمكن أن نلتفت إلى أنفسنا ونقول إن العلّة هنا، والمسؤولية هنا، وإذا كان من حل فيجب أن يبدأ أيضا من هنا.
ذهب مليون مصري إلى العراق بدعوة من الحكومة لكي يعملوا في الزراعة والصناعة، وعاد المئات منهم في نعوش لمجرد وقوع أزمة سياسية بين بغداد والقاهرة. والآن يعيش نحو مليوني مصري في خوف في ليبيا، التي طالما ساهموا في بنائها. الذي يضرب المصريين في سيناء، يضربهم في بنغازي. ثقافة الزعزعة والعدم.
نقلا عن الشرق الاوسط