رغم قناعتي أن العقل العاطفي لعالمنا العربي والاسلامي هو عقل (سردي) حيث صنعته الكتب المقدسة ( العهد القديم والجديد والقرآن ) صناعة سردية أدبية ، حيث الحكاية والمجاز والدلالة والمغزى والعبرة مثل (قصة يوسف) هي نواة نص الكتابة المقدسة ، لكني كنت دائما كنت مشدودا للكتابة النظرية التجريدية لما فيها من كثافة واقتصاد في الزمن …
لكني كنت دائما أدرك عجز مواهبي عن انتاج سرديات حذابة مشوقة، رغم ولعي المفتون بها الذي جعلني أقرا معظم ما كتبه روائينا العظيم نجيب محفوظ من روايات في المرحلة الثانوية في نهاية الستينات قبل المرحلة الجامعية، طبعا ما عدا التهامي لكل ما أبدعه عبقري القصة القصيرة (يوسف ادريس) …ومن ثم عبد الحليم عبد الله الذي أولعت برومانسيته الروائية في المرحلة الإعداية ، وحسية غواية الجسد في روايات احسان عبد القدوس ويوسق السباعي، وكان على الجانب الآخر مثلي الأعلى طه حسين الذي لم أنه المرحلة الثانوية لا وكنت أنهيت قراءة أعماله في المكتبة الوطنية في حلب ، عندما كانت معبدا للصلاة الثقافية ، قبل أن يجتاحها الابتذال الشعاري البعثي الرعاعي الدهماوي الغوغائي الذي حول هذا المعبد المقدس للفكر إلى صالة أعراس للشبيحة البعثيين والأمنيين، ويصبح هذا المعبد الفكري الحلبي الممتد من شيخ طه حسين ( المعري ) وأستاذه المتنبي، حيث حاضر فيه طه حسين في الثلاثينات عتن شيخه أبي العلاء بعد أن زارضريحه في معرة النعمان التي تزدهر اليوم ثورة وحرية فكرية وسياسية معراوية…..
المثقفون السوريون في أوربا وأمريكا معظمهم أطباء، وذلك من حسن حظنا لأن العرب تاريخيا وحاضرا لم يبرعوا باختصاص بقدر ما برعوا بالطب ….ولقد ساعد على ذلك أن الطب مهنة مربحة عالميا وعربيا …
من خلال تجربتنا في الغرب خلال عقود لم يبرز بين العرب شخصية طبية لا معة ثقافيا كما يحدث في الغرب منذ يوسف ادريس ، سوى الروائي المصري ( علاء الأسواني) ، سيما أن الأطباء العرب عادة ما يكونون هم النخبة المتفوقة دراسيا في بلادهم، ولكن لو استثنينا اسما كمجدي يعقوب المصري لن نسمع عن شخصية علمية طبية كبيرة عربية عالميا ……
بل ولو فتشنا عن أسماء طبية ذات حضور علمي وسلوكي فقط وليس ابداعا عبقريا، فلن نجد حتى على مستوى تجاربنا الشخصية الخاصة طبيب عربي بل وسوري إلا أصدقائنا الخاصين جدا الذن نعرفهم من الوطن …..فطبيب القلبية الذي تربطني به علاقة مودة إن لم يكن صداقة، لم يتصل بي حتى ولو مرة واحدة خلال عشرين سنة من علاقتي به منذ كنت في سوريا، وذلك للأطمئنان العلمي والتجريبي عن فعالية هذا الدواء أو ذاك …في حين ليس هناك طبيب فرنسي لم يتصل بي مطمئنا ومهدئا لقلقي كمريض، بما فيها رئيس قسم السكري في مشقى عسكري عريق في باريس الذي اتصل بي مرتين، رغم أن مشكلتي لم تكن من اختصاصه، لكنني مريضه ……
زرت ايطاليا بدعوة من طبيب سوري معروف فيها لتقديم محاضرة، بعد أن حضر لي ندوة فكرية في جمعية للأطباء السوريين في باريس التي كرمتني بإهدائي ( موسوعة الطب النبوي )، وسط ذهولي عن معنى وجود الأطباء المسلمين في الغرب، ما دام لدينا موسوعة طبية نبوية، حيث النبي (لا ينطق عن الهوى ) لكي يضيف له الافرنج والصليبيون ترهاتهم البشرية الدنيوية عن الطب، حيث ما يصح عن الحديث الشريف فيما ينطبق على قواعد الفقه والسلوك والعبادات، إنما ينطبق على كل ما يقوله الرسول لكونه لا ينطق عن الهوى …..
الطبيب السوري الرقاوي في روما قام بترجمة مداخلتي للحاضرين الايطاليين، وعندما أردت أن أقوم بمبادرة ودية نحو الطليان كضيف عليهم ، لاحدثهم عن تقديرنا كمثقفين سوريين للفكر والثقافة الايطالية ذكرت لهم أن القاريء العربي يعرف فكر المفكر والفيلسوف الايطالاي الكبير غرامشي الذي أعجب حتى واحد مثل لينين قائد ثورة أوكتوبر بإضافاته الفذة على فهم الماركسية ، وخصوصا موضوعات غرامشي حول ممكنات الثورة السلمية والانتقال إلى الديموقراطية والاشتراكية دون عنف الثورات، حيث شكلت هذه الأطروحة نواة الحركة الاشتراكية الأوربية والحضور اللميز للحزب الشيعي الإيطالي، وفي البيريسترويكا السوفياتية وهي تقوم بمراجعاتها في الماركسة والينيين، مشيرا في حديثي إلى أننا قرأنا ترجمات معظم أعمال غرامشي في اللغة العربية منذ السبعينات…
لكن صديقنا الطبيب المتحدث الرقاوي باسم الثورة لم يترجم ولا كلمة مما قلته عن غرامشي، وعندما اعترضت على فعله ذلك احتج أن غرامشي غير معروف في ايطاليا …وفي واقع الأمر أنه هو الذي لم يسمع باسم غرامشي، لأنه سألني قبل الترجمة ومن يكون غرامشي؟؟؟؟
فلنتصور ممثلا للثورة السورية لا يعرف اسم ليس أكبر مفكر ايطالي ثوري غير وأضاف في أسس الفكر الثوري العالمي باعتراف لينين ذاته، بل أكبر مفكر من مفكري العالم في القرن العشرين ..