أمام أنظار العالم كله، وصمته المخيف، تنفذ، من وقت لآخر، جرائم ضد الإنسانية في العراق، ينفذها المتاجرون بمظالم تعرض لها بالأمس الناس البسطاء والطيبون، فيما كانوا هم يتسكعون في عواصم العالم.
كانت مشروعة جدا تلك الشكاوى من جرائم القتل الجماعي والمقابر الجماعية والفساد، فإذا بمن يدعون الثأر من القتلة والجلادين وتصحيح الأوضاع ونشر العدالة، يلعبون دور جلادي أمس، وربما بأكثر بربرية.
في الأول من أيلول الماضي، أعدمت قوات المالكي، بإشراف فيلق القدس، 52 لاجئا أعزل في معسكر أشرف بعد أن أوثقوهم وأطلقوا على كل منهم رصاصات الغدر في مؤخرة الرأس أو في الصدر. كما خطفوا نساء ستا وزميلا معهم، ومصيرهم مجهول.
تقول السيدة اشرف مطلبي أم الضحية ياسر حاجيان:
“حصلت هذه الجريمة أمام أعين الأمم المتحدة وممثليها، الذين سلمناهم، رسميا وقانونيا، جثامين شهدائنا، وهم ما فتئوا لا يكسرون صمتهم.” وتقول إن مسؤولا عراقيا أخبر العائلات مؤخرا بأن الجثث دفنت سرا دون السماح للعائلات والمحامين وممثلي الأمم المتحدة بالمشاركة في الدفن ومعرفة مكانه. وتضيف:
” يعتصرني الحزن والألم عندما أتذكر جثة ابني ياسر المضرجة بالدماء وبيدين مكبلتين، وكان بودي لو كنت أرى، لآخر مرة، وجهه المغموس بالدم وقبضاته المشدودة لعل قلبي يهدأ. والآن لا أعرف كيف، وأين دفن فلذة كبدي”.
وتقول السيدة سيمين خوش نويس، شقيقة الضحية علي رضا خوش نويس، إنه بعد 164 يوما بعد الجريمة الجماعية لم تسلم الجثامين لعائلاتهم لدفنها، وعلمت توا أن أخي دفن سرا وفي مكان مجهول لنا. “
لقد نعى الإبداع والفكر الحر للتو الشاعر والكاتب الفذ أنسي الحاج بعد مرض عضال. لست من نقاد الأدب لأكتب عن تراثه الفريد، وليس هذا مكانه، ولكنني كنت أتابع ما ينشره في مجلة “الناقد” وغيرها من مقالات بعبارات مبتكرة ومعبرة وفي الصميم. وعندما أقرأ وأسمع عما يقترف اليوم في العراق من انتهاكات فظة وجرائم دموية ومن الفساد المستشري تحت سلطة أدعياء المظلومية، المقنعين بأقنعة المنقذ والحاكم العادل، أتذكر على الفور تلك الجملة الرائعة والخالدة لأنسي الحاج في مجلة الناقد عام 1990، والتي تقول:
” يبدأ المحروم بالمطالبة بالمساواة، ولا يلبث أن يعمل للسيطرة، ثم ينتهي بسحق الجميع.”
أي تلخيص وتفسير أروع وأكثر عمقا وواقعية لما يجري في عراق اليوم!المشتكون، باسم الطائفة، من القمع وسحق الحريات والحقوق يبدعون في قمعها وسحقها. والمتحدثون ليل نهار عن القتل المجاني والبربرية المنفلتة قد كشفوا أنسفهم عن معيدين لإنتاج من سبقهم، بل وتفوقوا عليه في الجرائر. وإن من أدانوا فساد الشلة الحاكمة السابقة حولوا العراق لمقدمة دول الفساد. أما جماهير الطائفة نفسها، فهي بلا حول وطول، وفي تيه وأوضاع معيشية بائسة، بينما من ينتحلون اسمها وشكاواها يستحوذون على كل شيء، وينفذون ما يأمرهم به ذلك ” الجار”، الذي يدينون له بالسلطة والمال والكراسي اللماعة.
أما العالم فإنه صامت عن الجرائم هنا، كصمته عن الجرائم الكثيفة والجماعية في سورية، وعن الإعدامات الجماعية المستمرة واليومية في إيران وسحق الحريات هناك. ومع مقولة أنسي الحاج، يجب أن نضيف مقولة الروائي الفرنسي الشهير فيكتور هيجو، حين قال ما معناه: إن الذين يجرمون هم مرعبون، وإن القادرين على منع الجريمة ولا يفعلون شيئا هم مخيفون.
المصدر ايلاف