بقلم حازم الأمين/
كشف المونديال، عربيا، عن كثير من مواضع هذيانية في الوجدان الجماعي لطوائف العرب وأجناسهم وبلدانهم. ما جرى للمصريين في أعقاب الهزيمة المدوية لمنتخبهم كان طبيعيا. فخسارة المنتخب أحدثت جرحا نرجسيا غالبا ما يصيب “الأمة” المنكوبة بمنتخبها، وهي في الحالة المصرية منكوبة بدولتها وبثورتها وبمستقبلها. لكن هذا يبقى طبيعيا في المونديال.
أما نحن المشارقة الذين لم ينعم علينا الله بمنتخب تضيف هزيمته إلى هزائمنا هزيمة، فقد اخترنا أن نمارس انقسامنا حول منتخبات غيرنا، لا بل اخترنا منتخبا يحبه بعضنا ويكرهه بعضنا الآخر. والحب والكراهية هنا لا يمتان طبعا لكرة القدم بصلة! إنه المنتخب الإيراني، الذي وعلى نحو مفاجئ صار منتخب الشيعة المشارقة، بينما نافسه وفاز عليه في المباراة الأخيرة يوم الأربعاء الفائت المنتخب الإسباني، الذي صار بحسب الجمهور السني المشرقي منتخب “أمويو الأندلس”.
إيران المونديال وإيران الطبقات المتوسطة المرهقة، لا تريد أن تعطي وجهها إلى مشرقنا الحافل بالأمويين والساسانيين
والحال أن المنتخب الإيراني الذي أحبه شيعة المشرق وصب سنته نار “شعوبيتهم” عليه، لا يمت لا بقريب ولا ببعيد لكلا الحب والكراهية بصلة، ذاك أنه منتخب الطبقات المتوسطة الإيرانية ممن لا يحبهم النظام، وممن يضطهد نساء جمهورهم في الملاعب، ويضيق على لاعبيهم المحترفين في الأندية الأوروبية ويتهم بعض أهم نجومهم بـ”الولاء للشيطان الأكبر”. وبهذا المعنى فلا حب أهل المذهب من “الروافض” يخاطب أهل المنتخب، ولا بغض أهل مذهب الأغيار من “النواصب” يعنيه أيضا.
اقرأ للكاتب أيضا: ‘قصة حرق معلن’ في بغداد
والحال أن ما جرى عشية المباراة الرياضية والمبارزة المذهبية يوم الأربعاء الفائت بين الساسانيين والأمويين لم تضعف منه المشاهد المتواترة من المباراة، والتي ظهرت فيها شابات إيرانيات حاسرات الرأس وراسمات علم بلدهن على وجوههن النضرة والمبتسمة، وقائلات لأهل المذهبين نحن هنا على غير هدى من ولاية الفقيه، لا نريد حبكم المنسجم معها، ولا نريد كرهكم الذي يحيلنا إليها.
كتب المدون السني “الأموي” بعد انتهاء المباراة على صفحته على موقع فيسبوك: “لقد التقطنا أنفاسا بعد النصر الإسباني على منتخب الاحتلال الفارسي، ولولا هذا الفوز لكنا اختنقنا بخسارات مصر وتونس والمغرب والسعودية”. أما المدونون الشيعة، فراحوا يتبادلون مقطعا مصورا يظهر فيه لاعب إيراني وهو يمرر الكرة من بين قدمي لاعب إسباني، ويقولون إن هذا المشهد “يعوض الخسارة الطفيفة التي أصابتنا!”.
إيران المونديال ليست هذه ولا تلك، وإيران المونديال ليست نحن أيضا، وليست حروبنا الأهلية. المنتخب الإيراني كان أجمل من وجه المرشد وأكثر رشاقة من أعدائه “الأمويين”. التدقيق في وجوه اللاعبين لا يحيلنا إلى وجه قاسم سليماني، والشابات المحتفلات على المدارج جئن ليتخففن من “التشادور” الذي يكاد يخنقهن. المنتخب هو صورة عن إيران أخرى، إيران لا يحبها النظام، لكن أيضا لا يحبها خصوم المذهب ممن قالوا إن المنتخب هو منتخب “الاحتلال الفارسي”.
المنتخب الإيراني كان أجمل من وجه المرشد وأكثر رشاقة من أعدائه “الأمويين”
إنها المذهبية التي تطيح بكل شيء يتجاوزها. المذهبية التي لا ترى أن قائد المنتخب مسعود شجاعي كان عرضة لحملة من جماعات النظام كادت تستبعده عن المشاركة، والمذهبية الموازية تصفق له كابن للمذهب على رغم أنه شارك مع ناديه اليوناني في مباراة مع فريق قادم من “الاحتلال الإسرائيلي”. وشجاعي الذي لطالما انتقد ممارسات النظام الإيراني في الملاعب وحيال ظاهرة المشجعات الإيرانيات، هو جزء من إيران التي لا نريد أن نعرفها ولا نريد أن نصدق أنها مثلنا ضحية جور النظام وضبطه لمشهدها.
اقرأ للكاتب أيضا: الحزن المسيحي
كان مشهد الانقسام المشرقي حول المنتخب الإيراني عشية مباراته مع إسبانيا كاشفا فعلا لمستويات غير مسبوقة من الهذيانات المذهبية التي لم تنج منها نخب على طرفي الانقسام المذهبي. وبدت صلابة المنتخب في مواجهته لأحد أقوى المنتخبات العالمية جزءا من عمليات شد وجذب، فما أن ينجح اللاعب الإيراني في تجاوز نظيره الإسباني حتى تتعالى صيحات متمنية إما تعثره وإما نجاحه في التسديد. والمباراة التي حملت مشاهد لعب ممتع كانت في المشرق مشحونة بكل أنواع المشاعر المتراكمة من الحروب الأهلية التي تعصف بأمزجة المشارقة.
لكن ثمة ما يمكن فهمه أيضا في تلاقي “نواصب” هذا المشرق مع “روافضه” على تثبيت صورة الولي الفقيه على وجه إيران، وتتمثل في أن إيران الأخرى، إيران المونديال وإيران الطبقات المتوسطة المرهقة، لا تريد أن تعطي وجهها إلى مشرقنا الحافل بالأمويين والساسانيين. إيران الشابة المشجعة التي أرخت شعرها متحدية النظام، ولم تجد ضيرا في رسم علم النظام على وجهها طالما أن لا علم غيره في متناولها، إيران هذه هي غير إيران التي انقسمنا حولها نحن بؤساء هذا المشرق.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال