بينما يحفل العراق بكل انواع التطور المميت…يشغل الكثير من المثقفين و السياسيين و وسائل الاعلام و حتى المواطنين أنفسهم بقضية بقاء رئيس الوزراء السيد نوري المالكي او ذهابه.. الجميع يطرح السؤال و كأنه هو الامر الحاسم في تقرير مصير الملايين من العراقيين الذين تزحف عليهم عجلة الموت منذ عقد من الزمان بأشكال مختلفة و تحت شعارات و تأويلات تناقض بعضها البعض حتى وصلت الى الزحف المقدس تحت راية ” لا اله الا الله” داعشية لا يمكن ردها… او ربما لا يريد احد ردها لهذا السبب او ذاك…
هذه الأسباب و بغض النظر عن دور الاطراف الداخلية و علاقاتها الخارجية فإنها تتمحور حول السلطة و موارد العراق… و هنا تدخل قضية رئاسة الوزراء في الحسابات لانها تمثل رأس السلطة و باب منجم الثروة و منفذ توزيعها…
هكذا هي الصورة العامة و لذلك فان اغلب الانتقادات الموجهة للمالكي ترتكز على فرضية ان الرجل ذو نزعة دكتاتورية و لا يريد ان يغادر ” الكرسي” حتى و ان أدى الى تدمير البلاد.. و هناك انتقادات اخرى بالطائفية و عدم الكفاءة و بالتالي الفشل المحتوم كما كان الحال في السنوات الثمان الماضية…
مع كل الاحترام لكل الانتقادات اود ان اطرح السؤال بشكل معاكس… هل يجرؤ المالكي فعلا على تقديم استقالته… و هل تجرؤ القوى المحيطة به فعلا الضغط عليه و دفعه لترك المنصب…؟؟؟..
هنا لا نتحدث عن الضمانات الشخصية و لا حتى نتحدث عن حقه حزبه الفائز في الانتخابات و لا إمكانياته للتحالف مع جهات متعددة و مختلفة بحيث يضمن له البقاء وفق الآليات الديمقراطية و لعبة الكراسي…. و إنما يتعلق بأمر اهم…. لنتذكر انه قال مؤخراً ان أبواب جهنم ستفتح اذا لم تحترم السياقات الانتخابية… و لم يوضح كيف… لكن منتقديه اعتبروا ذلك الكلام مؤشرا على نزعته الدكتاتورية و حسب… ربما .. لكن…
لكن فلنحاول ان نضع العراق في ميزان مفهوم الدولة و خاصة الدولة الحديثة المبنية على التوازن بين السلطات الثلاث … التشريعية و التنفيذية و القضائية…و التي تشكل رأس الهرم للكثير من المؤسسات الاخرى ترتبط ببعضها البعض في شبكة من العلاقات و التوازنات و المصالح و التي في محصلتها النهائية تشكل هيكل الدولة…
طبعا لا تتسع هذه المقالة و لا تهدف أساسا الى استعراض هذه المؤسسات و دورها لكن هناك مؤسسات مهمة مثل الجيش و ملحقاته من شرطة و أمن و مخابرات و كذلك الوزارات و رئاسة الجمهورية و الادارة الاقتصادية و المالية … الخ.. لابد من وضعها في الميزان حتى تتضح الصورة…
الان لو استعرضنا عمل هذه المؤسسات بدأ من السلطة الشرعية والقضائية فنرى ان البرلمان ليس له اي دور لان التوازنات السياسية … ان وجدت… تجد طريقها خارج نطاق البرلمان الذي لم يشرع اية قوانين خارج نطاق التوافقات السياسية بين الأحزاب …إذن السلطة التشريعية هي ليست سلطة مستقلة و ليس له ان كيان جودي حقيقي خارج محددات سلطة الأحزاب و السلطة التنفيذية…حال السلطة القضائية ليست افضل باي شكل حيث ان ارتباطها بالسلطة التنفيذية أوضح بكثير و ينقصها حتى إمكانية المناورات السياسية لانها غير مدعومة من احزاب سياسية…
رئاسة الجمهورية هي مؤسسة ” لا حول و لا قوة ” … اما مجلس الوزراء فهو مؤسسة غير كفاءة و فاشلة بسبب عدم انسجامها الداخلي و صراعات الأحزاب التي يمثلها الوزراء المختلفون في كل شيء… و على ذات الأساس فان الادارة المالية و الاقتصادية هي أيضاً فاشلة و الفساد هو الذي يقود عمليات توزيع الثروات بين أطراف النخبة هنا و هناك… بينما الشعب الذي يحصل بعضه على الفتات و البعض يعيش على الزبالة…
المؤسسات الأمنية و المخابراتية لم ترقى يوما الى مسؤولياتها و لذلك فان اغلب مناطق العراق أصبحت ساحات مفتوحة لكل انواع التفجيرات و القتل و الدمار… اخر الحصون المؤسساتية كانت مؤسسة الجيش… الذي ظهر اخيرا صورة بلا محتوى… مجموعة من الأفراد لا يجمع بينهم سوى البزة العسكرية و الرواتب…
ظهور داعش لم يثبت عدم فاعلية الجيش و هشاشته الميتة فحسب بل أضافت شرخا اخر في علاقة الدولة بالمجتمع… نعم اصبح واضحا ان الدولة العراقية محصورة فقط في بعض مناطق بغداد و بعض مناطق محافظات الوسط و الجنوب… و حتى هنا فان الالتزام يمر عبر سلطة احزاب هي كانت داعمة للمالكي في ولايته السابقتين…. لكن هذه الأحزاب لم تعد تريد المالكي وبل و تشارك في نقد نزعته الدكتاتورية و عدم كفاءته… ربما لهم الحق … و لكن..
بعد استعراضنا للسلطات و المؤسسات فان الاستنتاج الأولي ان الدولة العراقية هي ليس لها وجود فعلي لان كل هياكله مفككة و عليه فهي دولة بالاسم فقط و ربما أيضاً على الورق فقط لان الفساد و الطائفية قد نخرت شيئا فشيئا في جسم كل المؤسسات حتى مؤسسات المجتمع المدني و المنظمات و التزام المثقفين لم تسلم من هذا الوباء…
في النهاية هناك منصب واحد مرتبط بهذا الوجود الاسمي للدولة العراقية و هو منصب رئيس الوزراء و قائد عام القوات المسحلة …. و اذا فرغت… و هذا هو التخوف الحقيقي…فان كل شيء قد يتفكك في لحظات او ساعات لانه ليس هناك من يملك اية فكرة عن كيفية إيجاد قاسم مشترك وسط شدة الصراعات بين الطراف الصيقة و المنافسة …
هذا الانهيار و التفكك السريع حصل بالفعل في لحظة تقديم ميخائيل غورباجوف استقالته في اول ايام سنة 1992…. حينها تفكك الاتحاد السوفيتي و كأنه لم يكن يوما واحدا من اعظم قوتين على الارض على مدى عقود…
ربما يتساءل البعض بان الاستقالة لم تكن هي الحاسمة لان كل شيء كان قد ترتيبه مقدما…. اتفق مع هذا الرأي و أعتقد ان الامور في العراق أيضاً تسير في نفس هذا الاتجاه و اننا الان في المرحلة الاخيرة و ان الترتيبات قطعت شوطا بعيدا ( بالمناسبة كنت قد أشرت الى هذا الموضوع في مقالة بعنوان … بؤس الديمقراطية… في 12 حزيران 2012 )…
لكن يبدو ان الترتيبات التي دخل داعش ليشكل حلقة مهمة منها يبدو انها لم تكتمل بعد و هذا معناه ان استقالة المالكي الان ستعني المزيد من الصراعات ليس فقط بين الاطراف الرئيسية للتقسيم الثلاثي و إنما أيضاً بين الميليشيات للأحزاب المختلفة هنا و هناك… و هذا ربما يفسر مفهو أبواب جهنم التي صرح بها المالكي….
إذن بطريقة او اخرى فان الامر لا يتعلق بشخص المالكي و نزعته الكتاتورية …. بل بمنصب رئاسة الوزراء الذي بات يمثل اخر مسمار في نعش الدولة العراقية و لعل عودة الأمريكان يمثل محاولة لتقليل الاحتكاك و تكملة ترتيبات التقسيم كما يعتقد الكثير من العراقيين …. خاصة ان هناك مؤشرات خطيرة على ان الصراع على بغداد قد يكون شديدا جدا و لعل أوامر مقتدى الصدر بالتحضير بالدفاع عنها يمهد للسيطرة على العاصمة حتى حساب على الشركاء التقليديين الآخرين … كما ان حدود كوردستان مع الدولة السنية المفترضة ستكون شديدة الحساسية و هذا ما جعل الأمريكان يبدؤا منها حملتهم الجديدة داخل العراق… و من المؤكد ان هناك نقاط تماس ساخنة أخرى جنوب العراق… مع الكويت و السعودية تستلزم أيضاً وجود الأمريكان …
المهم …. ربما يدرك البعض حقيقة الأهمية القصوى لرئاسة الوزراء في هذه المرحلة الدقيقة في تاريخ العراق و يختار ان يبقي على المالكي ليس أنصياعا ” لدكتاتوريته” بل للمحافظة على وحدة العراق رغم ان ذلك قد يعني تحمل اربع سنوات اخرى من الفشل …. او كما يتوقع الكثيرون ان ايام المالكي أصبحت معدودة و الترتيبات يجب ان تتلاحق… و الا…فالكارثة ستكون مدوية… لان النخبة الحاكمة بكل أطرافها فاشلة و هي تريد الهروب الى الامام بأي ثمن….
هذه الصورة التي ترسمها وسائل الاعلام و تؤكدها تحركات الفاعلين السياسيين و القوى العسكرية و الميليشياوية على الساحة العراقية و الإقليمية…سواء كانت خيالية ام واقعية… فإنها تخلق رعباً داخل نفوس الجميع و قد تدفع الى دورة هستيريا عنف رهيبة لا تبقي و لا تذر…. لكن نتمنى ان لا يصبح المالكي غورباجوف العراق…حبي للجميع..