صناعة أمة…
في المقالة الأولى طرحنا بعض المبادئ العامة… في هذه المقالة نحاول تطوير تلك المفاهيم عن طريق وضعها على محك الحياة الواقعية …. و ربما تكون إحدى اهم الزوايا في هذا المضمار هي العلاقة بين الدولة و المجتمع… و لكن بما أن الأمة الكردية مقسمة و محكومة من قبل حكومات تنتمي لآمم أخرى فإننا إزاء نوعين من العلاقات بين الدولة و المجتمع …. الاول كما قلنا الدولة متمثلة بالمؤسسات الرسمية للدولة…. و الثاني هو الاحزاب و المنظمات الكردية التي تقوم بدور الدولة و تمارس سلطة فعلية دون ان تقدم خدمات … ثم نوع ثالث وهو يمثل حالة التقاطع بين العاملين الأول و الثاني حيث يتعرض الفرد الكوردي الى نوعين من السلطات المتناقضة و المتعاكسة في الأهداف و التأثير سواء كانت الدولة الرسمية و الأحزاب الكوردية في توافق أم في صراع…طبعا يضاف ألى ذلك سلطة القوى الاجتماعية..و هي قوى دينية او عشائرية او مجتمع مدني او أهلي او فنون او موسيقى.. او رياضة … الخ.. و التي تلعب دورا سياسيا بغض النظر عن واجهاتها الرسمية و خطابها العام..
من جانبه فان الاطار العام للمجتمع الذي يتواجد فيه الكورد ليس اطارا مجتمعيا كورديا حتى و أن كانت الأكثرية الديموغرافية و الثقافة العامة و الفولكلور الشعبي و العلاقات الاجتماعية هي كوردية بصورة عامة في منطقة جغرافية معينة… فالمجتمع … في مفهومه العام اينما كان و في اية مرحلة تاريخية… انما هو تلاقي الكثير من العوامل المختلفة و التي تشكل في تقاطعاتها المختلفة بما فيها الولاءات و الانتماءات السياسية و الاجتماعية كذلك الهويات الأخرى تكون عادة مختلفة و متعارضة لبعضها البعض ليس بين الأفراد و المجموعات بل أيضاً داخل كل فرد في حياته اليومية و في توجهاته السياسية …
نتيجة هذه التقاطعات الكثيرة و المتغيرة دوما فاننا نجد في المحصلة ايضا مجتمعات مختلفة و ليس مجتمعا واحدا متجانسا كما تصوره الخطابات السياسية….. و اذا اخذنا هذه القاعدة العامة بنظر الاعتبار و وضعنا المجتمع الكوردي في أي قسم من أقسام كوردستان موضع الدراسة بالنسبة للإطار العام في الدول الأربع الرئيسية أي تركيا و ايران و العراق و سوريا فإننا نجد مجتمعا كورديا يشكو من فقدان هوية ذاتية … و مجتمعا اكبر و اوسع يجمع الكوردي مع غيره ممن ينتمون الى هويات … او أمم أخرى… لكن هذا المجتمع هو ايضا مجتمع هش يعاني من تشرذم في الولاءات و الانتماءات… ثم بين هذا و ذلك نجد أيضاً نمطا اخرا من المجتمع الذي يسعى الى ضمان الديمومة و البقاء رغم الظروف المتلاطمة و هو مجتمع الأكثرية الفقيرة اقتصاديا و الغنية ثقافية لكن ثقافتها او ثقافاتها لا تشكل أساسا للمجتمع الذي تدعي أنها تمثله… بجانب مجتمع الأكثرية نجد بصورة خاصة مجتمعات نخبوية صغيرة بعضها غنية اقتصاديا لكن اغلبها أيضاً تتفاعل على أسس ثقافية انعزالية سياسية او دينية او أيديولوجية او اجتماعية قد تكون تاريخانية او إثنية او عشائرية او غيرها مما يخلق جدارا بينها و بين الأكثرية من جهة … و من جهة ثانية أيضاً بينها و بين مفهوم الأمة او الشعب و علاقة هذه الأمة او الشعب مع الدولة…
هذه الإشكالية تجعل من المستحيل على أية نخبة من النخب و بغض النظر عن نياتها الحسنة و اهدافها النبيلة و عن أساس خطابها السياسي او الأيديولوجي او الديني او العرقي او العشائري …الخ… أن توظف السلطة من اجل بناء أمة و بناء علاقة وثيقة بين هذه الأمة و الدولة لانها ببساطة تفتقر الى أية رؤية خارج إطار ثقافتها النخبوية الانعزالية… لذلك فان أية نخبة تستولي على السلطة او تفوز بالانتخابات فهي أما ستستخدم القمع لفرض إرادتها و رؤيتها على الأغلبية لانها انطلاقا من نيتها الحسنة و أهدافها النبيلة تعتقد أن هذا هو الطريق القويم لخلق الإجماع الوطني و أن هذا الإجماع حتى و أن تم استحصاله بالقوة فانه يظل افضل آلية لخلق أسس أمة موحدة… او أنها تترك الأمور تسير كما تشاء فيعم الفوضى و يفقد المجتمع توازنه نتيجة الخلافات و الاختلافات التي تحدثنا عنها آنفا و هذا بالضرورة يعني فقدان الدولة قدرتها على التفاعل و بالتالي تتحول الدولة الى ما يشبه شركات خاصة بهذه المجموعة او تلك كما يحصل الآن في العراق و كما حصل في مجتمعات كثيرة أخرى … أنها حالة تشبه الأوليكاركيات او الإقطاعات و لكنه بنموذج عصري يخلف عن النماذج التاريخية…
هكذا يتم أيضاً اختزال دور الدولة في رعاية المواطن الى قطاعات مافيوية ترعى المصالح الخاصة و تقاتل من اجلها بشتى الوسائل و هذا القتال يشمل القطاعات الأخرى ضمن الدولة ذاتها… و لتحقيق النجاح و السيطرة فان كل قطاع لا يجد حرجا للتعاون مع قوى خارجية تضمن لها ديمومة مصالحها… و نتيجة لذلك فان الدولة تفقد وجودها الكينوني الفعلي و أن احتفظت بوجود سياسي فضفاض… بينما يزداد التشظي الاجتماعي و يتحول الإطار العام للمجتمع الى شيء هلامي لا يتمتع بأية أواصر بينية … أي ان مفهوم المجتمع يتحول الى شيء عام جداً يشبه كثيرا مفهوم مجتمع الصحراء او مجتمع الغابة او مجتمع الجبال او مجتمع المحيطات… حيث لا يعني هذا المفهوم أي شيء خاص بل أن كل من هذه المجتمعات الجزيئية يحوي مجموعات لا يربطها بينها أية أواصر بل تحكمها عادة علاقات الصراع او التعاون السلبي.. أي أن هذه المجموعات التي تختزل دور الدولة فإنها تختزل دور الإنسان … او المواطن ليس لو وجود قانوني و فعال ضمن ثقافات و ممارسات هذه المجموعات المتحكمة بالأمور … في المحصلة تتعرض الأغلبية من الأفراد لسلخ حقوقهم بغض النظر عن انتماءاتهم القومية و الإثنية و الدينية و غيرها… بل الانتماء الى تلك المجموعات المتحكمة هو الأساس و الطريق للحصول على أية امتيازات..
و للأسف فان هذا الخطأ التاريخي وقع فيه أيضاً بعض القوى التي كانت تحمل مشاريع من المفروض أنها تتجاوز البعد النخبوي الانعزالي و هي غالبا الأحزاب و القوى القومية و منها حزب البعث في العراق و سوريا و كذلك الحركات الإسلامية بالإضافة الى مجموعات ماركسية … أما القوى الليبرالية فلم يكن لها مشروع واضح تجاه كيفية بناء أمة و في اغلب الأحوال فإنها انتهجت ذات النهج مثلها مثل القوى الأخرى… جميع هذه الأطراف فرضت على الكورد … و كذلك على اقليات اخرى بهذه الدرجة او تلك…الاستعراب الثقافي كي يكون أساسا وحيدا لبناء أمة … سواء سميت هذه أمة عربية او أمة إسلامية او إنسانية… هذا الفرض جاء أحيانا بصيغة حب … لأننا نحبكم نريدكم أن تكونوا معنا… او بصيغة قسر و إكراه… و هنا فان الأساليب كانت مختلفة تتراوح بين الإجبار العشوائي و الإجراءات القانونية بالإضافة الى الشيطنة او الاستغباء الثقافي و اللغوي…
و لكي اعطي القارئ الحق في فهم معنى مصطلح الاستعراب لابد من توضيح أن هذا المصطلح لا يعني بالضرورة التعريب بصورتها المفضوحة و لكن يعني محاولة محو الثقافات الأخرى و إحلال الثقافة العربية محلها…. و الثقافة العربية في هذه الحالة هي مجموعة من القيم التقليدية و المفاهيم العتيقة التي تؤشر الإرث الثقافي الصحراوي الذي انتشر مع الإسلام و حال دون تفعيل القيم الأخلاقية في هذا الدين العظيم… بكلام آخر … أن هذه القيم التقليدية الصحراوية كانت و ما تزال تقدم الى الناس على أنها تمثل القيم الإسلامية بينما تقدمها القوى الماركسية و الليبرالية على أساس أنها قيم تاريخية لابد من النظر إليها بواقعية قبل الأقدام على تغييرها… و هذه تشكل اشكالية كبرى لانها تنظر الى الأقوام او الامم الأخرى و إرثها الثقافي و الحضاري من خلال زاوية الإرث التاريخي العربي الصحراوي…
لكن العامل الحاسم في تفعيل هذا الاستعراب الثقافي هو تبني الدولة لهذه الآلية و وضعها أساسا لسياساتها و إجراءاتها القانونية مما حرم الكورد… و غيرهم من الأقليات… من أي إمكانية للتصدي لتاثيراتها… فكان الحل هو أما الانجرار بهدف البقاء على الحياة او المجابهة و مواجهة الموت قتلا و تدميرا او إهمالا و نسيانا….
و اذا بدأنا بأصغر الأقسام من الجغرافية الكردستانية… فان مثالا بسيطا قد يعطينا صورة أولية عن الوضع… هنا لا يمكنني أن أنسى شعور احد الطلبة السوريين الذي التقيته منذ سنوات في القاهرة… احمد كوباني…عندما اخبر عن ان الكثيرين من الكورد في سوريا يقدمون على الانتحار في القرى الحدودية مع تركيا لا لشيء سوى أنهم لا يجدون مخرجا من الإجراءات الحكومية التي تحرمهم من كل شيء كونهم لا يحملون الجنسية السورية … كان يبكي بحرقة على هؤلاء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم من الكورد و الحكومات السورية لا تريد أن تعترف بهم… و لو حاولنا ان نفهم الوضع من وجهة نظر الدولة السورية يمكننا ان نفترض انه ربما لان الحكومات المتعاقبة كانت تعتقد أن هؤلاء الكورد قدموا الى سوريا من تركيا في زمن سابق لتاسيس الدولة السورية…. هذه فرضية صحيحة لكن المشكلة أن النخب التي تقود هذه الحكومات لا تريد أن تتذكر أن الحدود التركية السورية هي ليست من صنع الله … و أن الكورد كانوا و ما يزالو يسكنون طرفي الحدود و هم لم يلعبوا أي دور و لم يسالهم احد حينما قرر البريطانيون و الفرنسيون وضع هذه الحدود و إنشاء دول حديثة… كان على النخب الحامة أن تدرك هذه الحقيقة التاريخية و تدرك أن الحدود هي من صنع الإنسان و أن هذا الإنسان قادر على التعامل مع نتائج خطاً استعماري بعقلانية مختلفة إذا كان يريد أن يخلق أمة جديدة … او على الأقل… شعب… كما تسميه القوى الحاكمة.. الشعب السوري..
كان هذا يحدث في سوريا منذ أن إنشات الدولة الحديثة بعد اتفاقية سيكس- بيكو التي يفرد لها القوميون و الإسلاميون و الماركسيون آلاف الصحف و الكتب و الإعلام لنقدها و تكفيرها… بل الأسوأ أن مساهمة الكورد في بناء كبيرة مثل دمشق و حلب وغيرها و كذلك انضمام مجموعات كوردية الى النخبة السياسية في جميع تلك الاتجاهات القومية العربية و الإسلامية و الماركسية لم تشفع للكورد كي يتم اعتبارهم مواطنين او نواة لامة جديدة مرتبطة بالدولة السورية…
و هنا ندخل في دور القوى الكوردية كبديل للدولة في تعاملها مع الأمة الكوردية … لا شك أننا نستخلص و لو بشكل اولي ان تجربة القوى الكوردية الأبرز على الساحة السورية كانت محاولة الاندماج في الحالة العامة عن طريق تأليف أحزاب … ابرزها الحزب الشيوعي الذي أضحى امبراطورية لعائلة بكداش… او تسلم قيادات دينية مثل المفتي و غيرها او الانخراط في التطور الاقتصادي الرأسمالي …. في المحصلة تخلت هذه القوى عن الكثير من مقوماتها التقليدية ضمن اطار ثقافتها الكوردية و قبلت الاستعراب بدرجو او باخرى لكنها في المقابل فشلت بشكل واضح في تحقيق حتى حقوق المواطنة مثل الحصول على الجنسية السورية و التي حرمت منها الآلاف من العائلات التي كما قلنا تركت لكي تواجه مصيرا مجهولا…
إزاء هذه الحالة المزرية برزت تنظيمات كوردية قومية معاكسة للقومية العربية و أخرى انتهجت نهجا ماركسيا ستالينيا شديد المركزية… هنا لابد من التاكيد ان الاستفادة من تجارب الشعوب الاخرى هو عامل ايجابي بلا شك…. لكن الجانب الاكثر جدلية هو فرض تجارب تخلق مسارا يبتعد عن الاسس الواقعية للنموذج الحياتي القائم…. و على هذا الاساس فان هذه القوى الماركسية و حتى القومية اختزلت دورها الى نشر ثقافة غريبة أيضاً عن الواقع الحياتي للكورد في سوريا و لم توفر لهم سوى تنظيمات عسكريتارية لا تختلف منهجيا عن أساس الدولة القائمة بالفعل و عاصمتها دمشق…
و لكي لا نبتعد كثيرا عن موضوعنا و لا نغرق في تقيم التجربة السياسية لهذه التنظيمات بشكل عام فان المهم فيما يتعلق بموضوع هذه المقالات هو دور هذه القوى السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في بناء أسس أمة كوردية .. و الاستخلاص الأولي لدور هذه القوى هو أنها خلقت أسسا أخرى للتشظي في المجتمع الكوردي على أسس تبني تجارب مجتمعات أخرى لا يتفق إرثها الحضاري و تجاربها التاريخية مع مثيلاتها الكوردية… بكلام آخر… أننا إزاء مجتمعات كوردية جديدة و ليس مجتمعا واحدا و هذا يشكل تحديا هائلا أمام محاولة بناء أمة كوردية…
و قبل ان ننهي هذه المقالة فلابد من التذكيربملاحظتين مهمتين… اولاهما…. هي قضية غاية في الاهمية و هي انه بالرغم من أن هذه المقالات هي حول الأمة الكوردية و لذلك يتم التركيز عليها أكثر من غيرها إلا أننا للحقيقة لابد أن لا نغفل أن مشكلة صناعة أمة في الدول الحديثة ما بعد الحرب العالمية الاولى لم تتعلق بالكورد وحدهم بل شملت كل المكونات الأخرى و بضمنهم الأكثرية القومية و هم العرب لأسباب كثيرة و مختلفة و تعرض الجميع بشكل او بآخر الى الاستبعاد و التفريق و التعسف… من الإجراءات التي يعرفها الجميع و التي لا نريد هنا تكرارها كما لا نرغب أن نتحدث عن المراحل التاريخية في فترة ما بعد الرب العالمية بصورة عامة… لكن المهم أن هذه الإجراءات و السياسات التي كما ذكرت آنفا استندت الى أسس ثقافية انعزالية للنخب الحاكمة خلقت آلية فعالة للتشرذم و لم تضع أي حجر في بناء أمة ….
ثانيا… أن المجتمعات و الأشياء تتطور و تتغير في كل لحظة من لحظات حياتنا و المجتمع الكوردي ليس استثناء هنا… و الحديث في كل المقالة عن المسارات المختلفة للتطور إنما هو تأكيد للقضية التي طرحت في المقالة الأولى … و أعني بها أن الأساطير و الأسس التاريخية لا يمكن أن تخدم وحدها قضية بناء أمة مهما كنا نعتقد بقوة هذه الأسس و الأساطير…
في المقالة التالية سنبحث التجربة العراقية…. خاصة أن ما حصل في العراق أسوأ بكثير و يتفوق على النموذج السوري بمراحل رهيبة