الليالي الخمسة 4
محمد الرديني
ملحق الليلة الثالثة
في الثالث عشر من تشرين الاول رحل حمد العسكرمن المدينة* موليا وجهه صوب الصحراء . في البداية وهو يمشي سيرا على الاقدام قادته رجلاه باتجاه معاكس لسير القطار الذي يمر بالمدينة من طرفها الجنوبي كل يومين وليلة، لايعرف لماذا اتخذ هذا الاتجاه ربما لانه كان يحب ان تلفحه الرياح اثناء المشي.
منذ كان صغيرا لايحب ان تدفعه الرياح الى الامام وهو يمشي، لذلك اعتاد حتى في ايام المطر ان يسير بعكس اتجاه المطر.
انه يتذكر جيدا حين يبدأ المطر بالانهمار، وهو طفل يافع، كيف ينتابه شعور بالغبطة والفرح، يجد نفسه بدون ان يدري يقف عند عتبة باب البيت الخارجي لبرهة ثم يندفع نحو الشارع العام بعد ان ينظر الى السماء ويبدأ المسير العكسي باتجاه رذاذ المطر.
على حافة الطريق الضيق الذي يفصل بين حاجزي سكة الحديد وقف قليلا يسترجع انفاسه وآثر بعد ذلك ان يجلس بعد ان احس انه سار لمسافة طويلة. الشمس مازالت في كبد السماء قوية مبهرة يغطي نورها مدى بصره.
هل من الطبيعي ان يترك زوجته وخمسة اولاد منفردين في هذه المدينة الصاخبة دون معيل..؟ ولكن… هل من الطبيعي ان يبقى هو في ذلك المكان حتى يصاب بالجنون.
الجنون!؟ ربما تحمل هذه المفردة آلاف المعاني ولكن (جنونه) هو لايوجد له مرادف في اي قاموس لغوي.
مثلا هو يكره الشمس لانها رتيبة تشرق من الشرق وتغرب من الغرب . تطلع لساعات يسمونها ساعات النهار ثم تغيب . هي كذلك منذ آلاف السنين، لم تتغير ومن الصعب ان تتغير حتى بعد وفاته. ومن العجيب الا تصاب هذه الشمس بالجنون من كثرة الرتابة التي تعيشها، هل يعقل انها هناك في المكان نفسه تشرق يوميا منذ ملايين السنين، الا تضجر؟ انه نفسه ضجرمنها ، بل انه كان يحمل ( الشمسية) كلما رآها تتوسط السماء وترسل اشعتها المحرقة بعكس القمر هذا الذي تغنى له وبه مئات الشعراء ، ولعل اغلبهم ادرك ان هذا القمر الابيض يغيب كلما يحلو له ويظهر كلما اراد، انه يطل بين الحين والاخر وقد تحجبه غيمة ثقيلة ولكنه يصبر عليها حتى تنقشع ثم يعاود الطلوع.
ابتسم.
استمع امس الى نشرة الاخبار الرئيسية من التلفزيون الملون في مقهى المدينة. قالوا ان المدينة المجاورة لمدينتهم والتي تشهد منذ سنوات قتالا مريرا بين فصائل متعارضة ، استطاع سكانها ان يناموا الليلة الماضية بهدوء لاول مرة في حياتهم بعد ان اتفق رؤوساء الفصائل على استلام السلطة بالتناوب وان يبدأ الاختيار حسب الحروف الابجدية*.
زادت رقعة ابتسامته هذه المرة، غطت وجهه احس بها اكثر شفافية من اي ابتسامة رسمها على شفتيه في السابق وهو يتذكر حكاية الكاتب العدل * .
مر القطار الحديدي سريعا من امام ناظريه، ورغم الدخان الكثيف الذي خلفه وراءه الا انه لمح وجه طفل شبه مغمض العينين يطل من احدى نوافذ القطار. مر الوجه سريعا لم يستطع ان يتبين ملامحه جيدا ولكنه لايدري لماذا تذكر امه في تلك اللحظة.
نهض متثاقلا غير عابىء بتلك الاحاسيس التي تتضارب في رأسه رماها كلها جانبا فلا زوجته يمكنها ان تكون صديقته ولا اولاده يمكن ان يتخلصوا من ادمان التلفزيون ولا الشمس ستعاند وتضرب عن الشروق عدة ايام ولا هو ينوي ان يحلق لحيته الكثة ولا القطار الذي مر الان سريعا يمكن ان يقف الا في المحطات المعتادة.
المعتادة .. آه من هذه الكلمة، انه ابي ذلك الذي اورثني الجنون.
قي يوم ما كنت صغيرا واحساسي باني المدلل في العائلة هو الذي اوقعني في مآزق جنونية لاحقة.
كان اخوتي يتسابقون صباح كل يوم وميدان سباقهم صالة البيت التي لم تكن تتسع لهرجهم وركضهم، وحين تحتج امي صائحة بصوت قوي يرد عليها اكبرالاولاد سنا : انها رياضة الصباح.
كنت اجد فرصتي في دخول الحمام قبلهم بعد ان يصل السباق الى حد العراك المعتاد. ولكن الذي حدث في صباح احد الايام قلب هذه المعادلة، فقد وجدت نفسي في خضم معركة قاسية معهم اناضل من اجل ان احتفظ بحقي في الدخول الى الحمام قبلهم كعادتي دائما، وفجأة انقشع غبار المعركة عن قامة ابي الذي اتجه الي مباشرة ومسك يدي وخضني بقوة كما يخض الفلاح عذق النخلة.
سمعته يقول بوحشية:
” اما آن لك ان تتخلص من هذه العادة.
لم ادرك في حينها ماذا كان يعني بذلك، مرت سنوات طويلة تزوجت فيها ورزقت بولد سمعته يصرخ في وجه امه ذات يوم:
” لماذا تركت ابي يدخل الحمام قبلي ، انه يعرف اني معتاد على الدخول في مثل هذه الساعة.
فجأة شعرت ان الدم الذي تجمع في شرايين قحف الرأس قد اندلق على وجهي وغطى عيني اولا رغم اني كنت ارى ابي وهو يقف امامي بقامته المديدة وهو يضحك … يضحك حتى شعرت انه قام من قبره الذي انفلق الى فلقتين وهو يضحك ومشى بين المقابر وهو يضحك ، ليس هذا كل ما هنالك بل انه دخل الحمام ووقف امامي وهو يضحك ورأى الدم يغطي عيني وهو يضحك.
ومنذ ذلك اليوم لم اعتد الدخول الى الحمام في المواعيد ( المحددة).
خفت حرارة الشمس ونهاية الظريق الترابي مازالت غير واضحة. شعر بالجوع يدغدغ معدته. ادار عينيه حواليه لم يجد ما يستحق الاكل ، كل الذي رآه شجيرات صبار مرمية هنا وهناك، ماحاجتي الى الاكل الان. حاجتي الحقيقية هي لوجه صبوح .. وجه يبتسم كله، وجه مثل الذي وجدته في ذلك اليوم . التقيته صدفة رغم اني اخاف النساء ولا احب الاقتراب من عالمهن ، الا ان الوجه قادني اليه، وجدت نفسي اقف امامه بشجاعة:
” هل يمكن ان اقول شيئا.
” قل ولو اني لا اعرفك.
” لايهم ولكنها امنية غالية ان اقول لك شيئا عزيزا على نفسي.
” قل ياهذا فانا مصغية.
” اجمل مافي وجهك عيناك.
” شكرا.
قالت ذلك وادارت ظهرها.
صاح:
” تعالي لم اكمل حديثي بعد.
حسنا.
” من اين لك هاتين العينين.
ضحكت ببراءة زادت من ضحكة عينيها وقالت:
” انهما من ربي.
” انهما تضحكان رغما عنك.
كاد ان يقول انهما تضحكان رغم عبوس وجهك ، ولكنه تدارك في اللحظة الاخير.
ضحكت مرة اخرى ربما لتؤكد قولي في عينيها وادارت ظهرها للمرة الثانية وهي تضحك . شعر بخفة عجيبة، انها المرة الاولى التي احس فيها ان جوفي اصبح اجوف: لامعدة ولا احشاء ولا قولون، تماما كما لو ان احدهم مد يده الى الداخل ورمى كل هذا الجوف بما فيه الى خارج الجسد. لم اكن اعتقد ان هذه الاحشاء ثقيلة على جسدي الى هذا الحد…. ظللت اتابعها بنظري حتى اختفت ، كنت اريدها ان تختفي اذ لو حدث غير ذلك لانكسر كل شيء.
في ذلك اليوم والايام التي تلت ظل حمد العسكر يبحث عن عينين ضاحكتين ، يبحلق في المارة حتى رأى ذات يوم امرأة على قارعة الطريق كانت تضحك فطلب منها الزواج فظلت تضحك ولم ترد.
ذيليات
1 – مضت سنوات طويلة ومازال سبب رحيله غامضا حتى ان زوجته التي عاشت معه اكثر من خمسة عشر عاما لم تعرف السبب الحقيقي وراء هذا الانقلاب. ولكن الرواة يقولون – وهو قول غير موثق- ان سبب رحيله كان خلافا بسيطا بينه وبين احد المتنفذين في المدينة، ولكن هؤلاء الرواة لم يستطيعوا تفسير كلمة متنفذين اذ ان معظم الاهالي كانوا يطلقون كلمة ( الشيخ) على عدد محدود من الاشخاص الذين يملكون محال تجارية كبيرة اشتروها ابان الحرب بينهم وبين اهالي المدينة المجاورة والتي استمرت سنوات طويلة.
2 – بعد شهور اندلع القتال في المدينة اعلاه لسبب غير معروف ولكن المقربين من الجهاز المشرف على اختيار الحروف الابجدية للرؤوساء اكدوا ان سبب القتال هو ان عددا من رؤوساء الفصائل المتعارضة احتجوا على تأخر استلامهم للسلطة بحجة ان الاحرف الاولى من اسمائهم لاتحمل اي اشارة لوجودها في القاموس اللغوي.
• ويذكر – حسب الاخبار – ان القتال مازال دائرا رغم ان القانون المدني لهذه المدينة يعطي حرية تغيير اسماء الاهالي دون الرجوع الى الكاتب العدل.
• 3- يقال ان كاتب للعدل في المدينة هو الجد السابع لكاتب العدل الحالي الذي يشير بفخر الى اجداده الستة حيث يتحدث عن مآثرهم في الديوانيات ولكنه يتحاشى الحديث عن جده السابع ، فقد قال الرواة مرة اخرى ان هذا الجد ليس فقط لايعرف القراءة والكتابة وانما كان يستعمل قلم ( القوبيا) في تلطيخ بصمته من اجل تصديق الاوراق الرسمية . ذات مرة وهي من المرات النادرة التي يشعر فيها هذا الجد بالبهجة طلب من زوجته ان تريه ابهامي رجليها فلبت له ماطلب رغم استغرابها الشديد ولكن استغرابها زال حينما رأته يقعد عند رجليها ويمسك قلم ( القوبيا) ويرسم دوائر صغيرة على كل ابهام وحين انتهى من ذلك – ومازال الحديث للرواة- فرش عدة اوراق رسمية على ارض الغرفة الوحيدة في منزله وطلب منها ان تدوس على حاشية كل ورقة ولكن من الاسفل، وظل هذا الجد يستعمل هذه الاوراق في عقود الزواج والميراث والوصاية فترة طويلة.
4- البلاهة تعني ان وجه حمد العسكر سترتسم عليه كل علامات البلاهة.
5- بعد شهور اقسم شاهد عيان انه رأى حمد العسكر نائما في الطريق الذي
يربط بين حاجزي السكة الحديدية وقد لف يديه بشجرة صبار صغيرة.
وزاد بعد ان اعاد القسم بشكل غليظ هذه المرة بان جسد حمد العسكر لم يكن يتحرك بل اصبح امتدادا لهذه الشجرة. ولكن اهالي المدينة لم يصدقوا هذا القول لانهم يعرفون الطريق جيدا وبعضهم يسلكه لحاجة ما راكبا او راجلا ولم يحدث ان رأوا شخصا ينام هناك او انه يحتضن شجرة صبار.
ولكن رواة اخرين اكدوا ان حمد العسكر قد تزوج من امرأة مجهولة النسب والابوين كانت كما
يقولون تمتلك وجها عبوسا بعينين ضاحكتين.