مولي مككيو وجريجوري مانياتيس
كان وصف غزو بوتين لشبه جزيرة القرم بأنه أشبه بسلوك القرن التاسع عشر، حكما خاطئا على الأحداث الضخمة الأخيرة، لأن بوتين لم يخطئ في حساباته، بل أعاد تعريف ساحة الحرب في القرن الحادي والعشرين.
قبل أن يقدم بوتين على غزو جورجيا في أغسطس (آب) عام 2008، قضى شهورا ينشر الآلة التقليدية للحرب، فأعاد بناء السكك الحديدية والطرق السريعة لنقل الدبابات وآلاف الجنود، وأرسل الطائرات الحربية في طلعات تهديدية فوق الأراضي الجورجية، ولجأ إلى آلة الدعاية الرسمية للترويج لروايته حول الطرف الذي بدأ الحرب.
لكن بوتين لم يعد ملتزما بضوابط ساحة حرب الدولة. غير أن سنوات المواجهة مع الانفصاليين والمقاتلين والإرهابيين والجماعات الإرهابية أثرت في طريقة تفكيره. فشن بوتين في شبه جزيرة القرم حربا مفاجئة – سريعة وخاطفة – يتوقع أن تكون سمة المستقبل.
في البداية، ظهر الجيش الخفي من العدم، وبدأ المرتزقة بإثارة المشكلات وقتال الشوارع. هذه القوات التي أنكرها بوتين، كان الواضح أنها لا تلتزم بالقوانين أو القواعد أو المعاهدات التي تحكم ساحة الحرب – أضخم تحد من بوتين للنظام الدولي. إنهم خليط من الجنود والإرهابيين بوجوههم المقنعة ووحدات القيادة والسيطرة المجهولة والأوامر الخفية، الذين جرى تفعيلهم من دون شك لتحقيق أهداف الدولة الروسية. وغياب قائد واضح سيعطل رد المجتمع الدولي، فلا يوجد جنرال يمكن التفاوض معه على وقف إطلاق النار أو الاستسلام، إذا ما اندلع العنف، وما من سبيل لإنهاء ذلك إلا بوقف كل مسلح.
هذه القوات غير النظامية تشكل تهديدا نفسيا للسكان المحليين ودولة أوكرانيا ككل، الذين لا يعلمون المكان الذي توجد فيه باقي هذه الجيوش الخفية.
المكون الثاني لساحة حرب القرن الحادي والعشرين لبوتين، هي الإنترنت. ووصفها بالدعاية يقوض الطبيعة السامة والغادرة لهذه المعركة المعلوماتية.
كانت تكتيكات ساحة الإنترنت متصلة بهدف بوتين الأخير، وتمثلت في تعطيل اتصالات النواب والإدارة، في الوقت الذي تواصلت فيه المعلومات المضللة المتعلقة بالحرب الجديدة على الفاشية تتدفق باللغة الروسية.
صاغ بوتين نسخته من الحقيقة لنشر الرواية التي يحتاجها لزعزعة الاستقرار في أوكرانيا، ونشرت على مئات الجبهات ووسائل الإعلام الاجتماعية، شريان الحياة الرئيس للمحتوى للترويج لزعم بوتين بتعرض الناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا للقهر والإيذاء والتخويف.
وكانت الحقيقة غائبة في كل هذا. لعل أبرز ذلك ما نشرته وكالة «إيتار تاس» الروسية هذا الأسبوع، ونقلته عنها لاحقا مجلة «فوربس» وعدد من المصادر الإعلامية الأخرى، بأن 675 ألف أوكراني طلبوا لأخيرا اللجوء السياسي لروسيا. ولا يخفى علينا أن موسكو زعمت في عام 2008 أن ألفين من المدنيين قتلوا في أوسيتا الجنوبية، إحدى مناطق جورجيا التي أرسلت موسكو إليها قواتها ولا تزال هناك، وتبين لاحقا لمحققي منظمة ه«يومان رايتس ووتش» أن العدد لم يتجاوز الـ44 قتيلا فقط. لكن وكالات الأنباء الغربية غطت قصة بوتين المزيفة كما لو كانت جديرة بالمناقشة. وقد أدى تشويهه الحقائق وما نتج عنها من اعتداءات إلى تباطؤ الردود تجاه أفعاله ووهن عزيمة من سيواجهونه.
ثالثا، يستخدم بوتين الأسواق المالية كأداة جديدة. فمع ثروة شخصية قيل إنها تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، يدرك بوتين أهمية الأسواق المالية. وقد سمحت له ثروة روسيا بتكوين شراكات قائمة على المصلحة المالية المشتركة، تمكنه من الاعتماد عليها.
وقد اعتاد بوتين تلك التكتيكات، ففي عام 2007 أعاقت هجمة إلكترونية الأسواق المالية في إستونيا لعدة أيام بعد خلاف مع روسيا. تخلق هذه التكتيكات في النهاية فوضى يتحكم هو فيها، وتمكنه من التأثير في سياسات أوكرانيا.
لقد تحرك بوتين إلى جزيرة القرم، لأنها كانت الطريقة الأسهل لاختبار ساحة حربه الجديدة. فالقرم مقر أبرز أصول الجيش الروسي، وشعبها يميل إلى روسيا وهي منعزلة جغرافيا عن بقية أوكرانيا، ومن ثم سيكون بمقدور بوتين أن يتوقع بثقة أنه لن يكون هناك رد مادي على غزوه من قبل الغرب المنهك عالميا.
وقد اعتمد بوتين على مدى سنوات على انتهاج أسلوب المطرقة السوفياتية، فتحركاته الأخيرة تشير إلى أن الجيش التقليدي والاستخبارات لم يعدا الوسيلة التي تشعره بأنه مضطر للقتال. ورغم تركيز الغرب على تقديم الرد الأمثل لتحركاته الأخيرة، يتوقع أن يتوجه بوتين لاتخاذ الخطوات التالية، والمتمثلة في تحديد أي البروتوكولات الدولية – إن كانت هناك واحدة – تنطبق على تصرفاته وكيفية الاستفادة من تكتيكاته في مكان آخر.
لقد حان الوقت للتخلي عن الاعتقاد البالي بأن الحروب العالمية قد ولت. وبمرور الوقت، يتضح أن بوتين هو من يمسك بخيوط اللعبة – حقيقة توجب علينا جميعا الاعتراف بها والتي من أجلها نحتاج إلى رد قوي.
* يعملان مستشارين مستقلين في تقديم الاستشارات للحكومات والمؤسسات والمنظمات الدولية بشأن السياسة الخارجية والاتصالات الاستراتيجية
* خدمة «واشنطن بوست»
نقلا عن الشرق الاوسط