كاتب ومفكر عراقي
اللجان التحقيقية وسيلة قديمة إتبعتها الأمم القديمة لمراقبة تصرف الحاكم او الحكومة ومؤسساتها وأدخلت في دساتير الدول بصورة متطورة منذ عام 1689 حيث شكل الملك البريطاني أدورد الثاني لجان لتقييم إدارة الحرب مع إيرلندا، وأخذت فرنسا بالتجربة عام 1828 بشأن سوء إدارة الإقتصاد الفرنسي. وتعتبر اللجان البرلمانية من أهم اللجان الرسمية بحكم إن البرلمان يمثل السلطة التشريعية ويتكفل بمهام مراقبة الإداء الحكومي بحكم إختصاصه، وينتهي عمل اللجان التحقيقية عادة برفع تقرير للبرلمان للبت في موضوع التحقيق (للمزيد راجع التحقيق البرلماني. د. فارس عمران). ويرى د. أيهاب زكي بأن” عملية تقصي الحقائق في إداء السلطة التنفيذية يتم عبر لجنة برلمانية للكشف عن مخالفات محددة، ويعرض التقرير النهائي على المجلس التشريعي. ( راجع الرقابة السياسية على أعمال السلطة التنفيذية في النظام البرلماني).
لغرض نجاح عمل اللجان التحقيقية وضعت شروط معينة أهمها.
1. نزاهة أعضاء اللجنة: وعدم إرتباطهم بهيئة حكومية ما، أو تنظيم حزبي له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بموضوع التحقيق، وعدم تقييم الموقف على أساس المصالح الفئوية والحزبية والعشائرية والمذهبية والغايات الضيقة.
2. كفاءة أعضاء اللجنة التحقيقية: ومعرفتهم بمواد الدستور والقوانين السارية المفعول والقدرة على الإستنباط وجمع وتحليل المعلومات وتوثيق الأدلة بصورة تقنية، وأن تضم اللجان خبراء ومختصين في المجالات الأخرى ذات العلاقة بالتحقيق كالجانب العسكري والأمني والإقتصادي والتقني والطبي والنفطي غيرها حسب مهمة التحقيق. وأن تتوفر فيهم مؤهلات تتناسب مع طبيعة التحقيق. علاوة على توفر عامل الثقة والقدرة على تحمل المسؤولية، والمصداقية في التعامل مع طبيعة الحدث وتطوراته.
3. الإستقلالية: وهذا عامل أساسي في نجاح عمل أي لجنة تحقيقية، يجب أن يتمتع أعضاء اللجنة بالحيادية والشفافية، وأن تكن لهم ثقافة عامة وتأريخ مشرف لا تشوبه شائبة، وغير متهمين بجرائم جنائية أو مخلة بالشرف، وليس لهم أي مصلحة مع الأطراف التي يجري التحقيق معها، وعلاقتهم طيبة مع الجميع، مهمتهم الرئيسة هي كشف الحقيقية فقط. وعدم ممارسة أساليب الترغيب والترهيب مع الأطراف التي يتم التحقيق معها، وترك التردد والخوف جانبا. ولو طبقنا هذه الشروط على اللجان التحقيقية في العراق لا يسعنا سوى ان نهز رؤوسنا تهكما وسخرية، وربما نضحك قليلا، فشرٌ البلية ما يضحك!
تستمد اللجان التحقيقية قوتها من عاملين أساسيين هما: جدية الحكومة في الكشف عن مواطن الزلل، ونزاهة القضاء في التعامل مع المشاكل التي يترتب عليها تشكيل لجان تحقيقية لغرض الكشف عن ملابساتها وتجريم المسببين وإطلاق سراح الأبرياء. عندما تكون الحكومة جادة في كشف الحقائق فإنها تسهل عملية اللجان التحقيقية وتُسخر كل الإمكانات المادية والمعنوية لخدمة اللجنة. وعندما يكون القضاء نزيه فإنه لا يتواني عن كشف الحقائق الكاملة أمام الشعب بإعتباره مصدر السلطات وله الحق الكامل في الإطلاع على ما يجري في دهاليز الحكومة ومؤسساتها. وعندما يكون مجلس النواب ممثلا حقيقيا للشعب والجهة الرقابية الأولى على عمل الحكومة، فمن الأولى به أن يشكل لجانه التحقيقية من قبل نواب مستقلين ونزيهين بعيدا عن المحاصصات الحزبية والطائفية. فليس من المنطق على سبيل المثال أن يشكل مجلس النواب لجنة تحقيقية عن مجزرة آمرلي التي إرتكبتها ميليشات الحشد الشعبي ويُنيط رئاسة اللجنة بالإرهابي الدولي حاكم الزاملي، صاحب التأريخ الحافل في مذابح أهل السنة لعامي 2006 و2007 عندما كان وكيلا لوزارة الصحة. وهذا الإرهابي من زعماء جيش المهدي سيئ الصيت ويعد واحد من أبرز الإرهابيين العتاة في العراق المحتل ومنهم باقري صولاغي ومقتدى الصدر وهادي العامري وابو مهدي المهندس وجلال الصغير وحازم الأعرجي وبقية الطغاة. كما أنه يُقطر حقدا وطائفية على أهل السنة، ورئاسته اللجان الأمنية إنما الغرض منه الإلتفاف على القضايا وإبعاد المجرمين الحقيقيين عن الأضواء وتلبيس الغير من الأبرياء التهم جزافا.
المثير في الأمر إن هذا النائب الإرهابي عندما يتولى رئاسة لجنة تحقيقية في البرلمان فإنه غالبا ما يعلن النتائج قبل بدأ التحقيق وهذه حالة نادرة في برلمانات العالم وعمل اللجان التحقيقية!وكالعادة داعش وأزلام البعث والتكفيريين والظلاميين هم مادته الدسمة الذين يقفون وراء كل الجرائم التي يرتكبها الحشد الشعبي والميليشيات الشيعية. ونستذكر اللجنة التي ترأسها بعد إغتيال شيوخ أهل السنة في البصرة، فحالما وصل الزاملي البصرة أعلن إن داعش يقف وراء ذبح الشيوخ! حينها كشف محافظ البصرة ماجد النصراوي عن التوصل” إلى بعض الخيوط التي ستمكن القوات الأمنية من اعتقال منفذي عملية اغتيال أئمة المساجد في المحافظة التي طالت 4 من علماء الدين السنة في قضاء الزبير جنوب مدينة البصرة. وقال النصراوي خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس لجنة الأمن والدفاع النيابية (حاكم الزاملي) في البصرة إن “هناك بعض الخيوط التي ستمكن القوات الأمنية من إلقاء القبض علی المجرمين، غير مستبعد أن يكون تنظيم داعش وراء العملية”. مع إن رئيس الوزراء حيدر العبادي إعترف بأنه لا يوجد دواعش في جنوب العراق الخاضع للسيطرة الإيرانية المطلقة. ورغم الإعلان بأنه تم التوصل الى خيوط الجريمة وستعلن النتائج قريبا إلا ان الموضوع طمس كالعادة دون ان يخجل رئيس البرلمان من نفسه ويسأل أين نتائج التحقيق؟ والحقيقة ان رئيس البرلمان عندما شكل اللجنة التحقيقية برئاسة حاكم الزاملي فإنه أراد بذلك تمويه الجريمه وإخفاء معالمها لأنه يعرف جيدا هوية زميلة البرلماني الإرهابي.
منذ الإحتلال الامريكي الإيراني للعراق شكلت آلاف اللجان بشأن حالات القتل والأغتيال والإعمال الإرهابية والخطف والتهجير والسرقات والحرق المتعمد لأرشيف الوزارات، والعقود الباطلة والتزوير والرشاوي والفساد الإخلاقي وسرقة مواد البطاقة التموينية وغيرها، ولم تظهر أي نتائج من اللجان التحقيقية! ربما حرارة جو العراق تساعد على تبخر النتائج! لا نتائج لأن جميع من يحكم العراق هم من الإرهابيين والمجرمين واللصوص والمزورين والمرتشين والفاسدين اخلاقيا، كما إن الشعب بدوره لا يهمه نتائج التحقيق البته! فقد وفرت له الحكومة كل أسباب الزيارات واللطم والنواح والتطبير وجلد الذات على مدار السنة، وهو قانع بحاله المزري مستمتع إيما إستمتاع بالذلة التي هيهات أن تفارقه، المهم عنده كل يوم كربلاء! هذا ما يريده الشعب من التحرر كما عبر جون ستيوارت أحد مقدمي البرامج الأمريكية الساخرة.
يستذكر القراء الكرام إختطاف رئيس اللجنة الأولمبية وعدد كبير من أعضاء الهيئة الإدارية وقد أطلق سراح البعض منهم، بمعنى يمكن معرفة الجناة بسهولة، كما أن العملية تمت في وسط العاصمة ظهرا. ويستذكرون أيضا إختطاف موظفي البعثات جهارا بسيارات حكومية. وصرح رئيس الوزراء السابق جودي المالكي عند إشتداد الأزمة مع التيار الصدري ومحاولة سحب الثقة منه بأن ملفات هذه القضايا بيده وهدد بها! ولكن القضاء المسيس كالعادة لم يطالب جودي المالكي بالملفات! لأن القضاء لا يحترم نفسه ولا يحترم الشعب. ومجلس النواب إلتزم الصمت تجاه هذه التصريحات فقد كان منشغلا بمناقشة مسلسل الحسن والحسين!
قبل أسابيع قلائل تعرضت طائرة اماراتية إلى إطلاق نار أثناء محاولة هبوطها في مطار بغداد الدولي قادمة من دبي. وأعربت الوزارة عن قلقها الشديد بشأن تعرض إحدى طائرات شركة (فلاي دبي). شكل البرلمان لجنة تحقيقية برئاسة هولمز الزاملي كالعادة، الذي صرح بأن” سلطة الطيران تجري الآن تحقيقاً بالحادث ويتوقع ظهور نتائج التحقيقات بسرعة”. بالطبع لا توجد نتائج! مع أن الجميع يعلم إن ميليشيا عصائب أهل الحق هددت الإمارات بالإنتقام بسبب درج العصائب على قوائم التنظيمات الإرهابية.
من جهة أخرى اعلن مسعود حيدر عضو اللجنة المالية النيابية عن ” فتح اللجنة المالية تحقيقا عاجلا لكشف ملابسات ضياع الرصيد النقدي للعراق في الاعوام العشرة الاخيرة”. ونقلت صحيفة الدستور عنه” ان الرصيد النقدي لدى الحكومة منذ 2004 ولغاية 2013 بلغ 114 ترليون دينار ولم يتبق منها سوى ترليونين و400 مليار دينار ما يُشكل صدمة لضياع هذه الاموال، وحسب المعلومات التي لدينا والبيانات المالية، فأن الفائض المالي كان 150 مليار دولار منذ 2004 ولغاية 2012 والارصدة المدوّرة النقدية 95 مليار دولار، الا ان لدينا ارصدة مدّورة تبلغ ملياري دولار فقط ، اما الـ93 مليار دولار الأخرى فقد ذهبت أدراج الرياح”، مبينا أن لجنته تعمل على معرفة أين ذهبت الأموال ومعاقبة الفاسدين! كالعادة طمرت القضية! مع العلم أن حيدر العبادي كان رئيسا للجنة المالية البرلمانية خلال حكم جودي المالكي. وكما يقول المثل العراقي” شيلني وأشيلك”. وهناك لجنة عن الصفقة الروسية الفاسدة التي أعلنها عنها علي الدباغ ولا يعرف أحدا عنه النتائج شيئا. ولجنة أخرى عن إعادة طيارة لبنانية بأمر من إبن وزير النقل السابق هادي العامري، ولجنة اخرى عن لعب كشف المفجرات التي حوكم عليها المورد البريطاني وطمرت في دهاليز الحكومة، ناهيك عن لجان أخرى حول مجزرة سبايكر وأخرى بشأن الهجوم على اتباع السيد الصرخي وقتل واعتقال المئات منهم بتكليف من مرجعية النجف، ولجان لا حصر لها عن مجازر الحويجة والفلوجة والزركة وسقوط الموصل والجنود الفضائيين والفساد السرطاني في جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية. لكن نتائج التحقيق كانت صفرا!
لجنة النزاهة وهي لجنة لا تحمل من النزاهة إلا إسمها التي لوثته، تعلن بين فترة وأخرى عن آلاف من قضايا الفساد لكنها لا تجرؤ على تسمية الحيتان الكبيرة بل الأسماك الصغيرة فقط. لأن رئيس اللجنة أحد خدام المالكي وصار مليونيرا في عهده الأغبر، ولا يصدر عنه موقف إلا بعد موافقة المالكي، لا عجب لأن رئيس هيئة النزاهة (علاء الساعدي) هو شقيق المستشار القانوني للمالكي المدعو عباس الساعدي! او تعلن الإسماء عندما يكون الجناة قد خرجوا بأموالهم الى بلدهم الثاني الذي يحملون جنسيته، كما يقول المثل العراقي” موت يا حمار لما يجيك الربيع”.
على سبيل المثال، اصدرت محكمة جنايات الرصافة حكماً غيابياً بالسجن (15)عاما على الامين العام السابق لوزارة الدفاع زياد القطان بتهمة الاضرار بالمصلحة العامة. وذكرت هيئة النزاهة في بيان صحفي”ان وقائع الدعوى المحالة الى المحكمة تشير الى ان المدان الحق الضرر بالمصلحة المعهودة اليه بصفته أمينا عاماً لوزارة الدفاع من خلال العقد المبرم مابين الوزارة وشركة سكنز” موضحة أن مقدار الضرر المتحقق بالمال العام جراء العقد المتضمن تجهيز الوزارة بالاسلحة الخفيفة بلغ(31.340) مليون دولار امريكي. لاحظ السجن غيابيا! فقد فر القطان بملايينه الى الدولة التي يحمل جنسيتها. ونفس الامر جرى مع وزير التجارة السابق الدعوجي عبد الفلاح السوداني ووزير الدفاع السابق عبد القادر العبيدي وأيهم السامرائي وبقية الجوق من العملاء والفاسدين.
موخرا كشف عادل نوري عضو لجنة النزاهة في مجلس النواب الحالي عن ملف فساد لطائرات عسكرية وهمية إشتراها جودي المالكي من روسيا بمئات الملايين من الدولارات، وأكد ” تبين أن تلك الطائرات هي الطائرات العراقية التي لم تعطها ايران الاذن بالهبوط في الحرب الامريكية ضد العراق واضطرت للهبوط في روسيا آنذاك، فأعادت حكومة المالكي تلك الطائرات على أنها مشتراة”.
كما يذكر الخبير الاقتصادي، ماجد الصوري ” منذ عام 2003 وحتى أكتوبر من العام الجاري، دخل العراق 640 مليار دولار من أموال النفط فقط”، مضيفاً أنّ “هناك إيرادات أخرى دخلت العراق عن طريق ما تبقى من النفط مقابل الغذاء، وما تم الحصول عليه من الأموال المجمّدة وغيرها”. وأوضح الصوري أن “كل تلك الأرقام تصبح بمجموعها في حدود 750 مليار دولار، أي ما يكفي لتطوير أربعة بلدان بحجم العراق، وجعلها في مصاف الدول الأكثر تقدماً في العالم”. ويضيف ” الأموال لم تنتج عنها استثمارات في البلد، ولا توجد أيّة إحصائيات لصرفها وهناك أرقاماً مذهلة فيما يتعلق بهروب وغسيل الأموال، بعضها يصل إلى 138 مليار دولار هرّبت من العراق إلى دول مجاورة خلال السنوات العشر الأخيرة، وشُكّلت لجان لمتابعتها، لكن بلا نتائج”.
مؤخرا قام عناصر ميليشا شيعية باختطاف عضو مجلس النواب زيد الجنابي، وقتل عشرة أشخاص كانوا ضمن موكبه، بينهم شيخ عشيرته قاسم الجنابي ونجله محمد قاسم الجنابي، إضافة إلى أفراد حمايته، إثر كمين أعد لهم شمالي بغداد، وأفرج عن النائب في وقت لاحق، وتم إعدام الآخرين وإلقاء جثثهم في مناطق متفرقة بعد ساعة من اختطافهم قبل يومين.واستنكر رئيس الوزراء حيدر العبادي الحادث وتوعد بالقول “سنضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه العبث بامن وحياة العراقيين وسيتم ملاحقتهم والقاء القبض عليهم وتقديمهم للقضاء”. كما سارع البرلمان والحكومة إلى الإعلان عن تشكيل لجان للتحقيق في الحادث لاحتواء تداعيات الحادث الذي يهدد بإشعال أعمال عنف طائفية. أما أمر اللجان فسيكون مصيره مصير اللجان السابقة، أما أن يضرب الحيدري بيد من حديد فالوقائع تشير إلى خلاف ذلك، فيده مع الميليشيات من حرير وليس من حديد.
يقال في المثل العراقي بأن عفونة السمكة تبدأ من رأسها، وهذه هي الحقيقية. لكن المصيبة أن السمك الفاسد لا يزال يحتل الصدارة في البرلمان والرئاسات الثلات والحكومة والقضاء. ومهما كشفت الحكومة حالات من الفساد المالي والأخلاقي، فإنه لا فخر لها في ذلك! لأن قمة الفساد ان تكشفه ولا تلاحق المفسدين قضائيا، اللهم إلا إذا كنت الأمر يمسك عن قريب او بعيد! وحيدر العبادي أعرف بالحال! أما نتائج اللجان التحقيقية فيصدق عليها المثل العراقي” أقبض من دبش”.
علي الكاش