الكنيسة السريانية الأنطاكية، أم الكنائس المشرقية( الآشورية، الكلدانية، المارونية). تَنقَلَ كرسيها الرسولي(البطريركي) بين المدن والتجمعات السريانيةالآشورية التاريخية في بلاد ما بين النهرين وسوريا، تبعاً لحركة نزوح السريانتحت ضغط الاضطهادات و حروب الغزاة ، حتى استقر كرسي الكنيسة ،منذثلاثينات القرن الماضي، بالعاصمة السورية دمشق . المطران أفرام كريم، القادم من ابرشية نيوجرسي في الولايات المتحدة الامريكية، اختاره “مجمع الأساقفة” في ايار 2014 بطريركاً على راس الكنيسة السريانية الارثوذكسية، اول بطريرك سوري الهوية والجنسية في تاريخ الكنيسة السريانية. من سوء حظ قداسته، أنه اصبح بطريركاً، وسوريا تعصف بها ظروف واضطرابات أمنية وسياسية هي الأسوأ منذ استقلالها 1946. لهذا، ومنذ الأشهر الأولى لتولي البطريرك افرام مهامه ، بدى متخبطاً مرتبكاً حائراً ،في كيفية إدارة وتسير شؤون كنيسته ،التييتوزع رعاياها في سوريا ومعظم دول المشرق وفي قارات العالم الخمس. لا يخفى على كل مهتم بالمجتمع السرياني ، حجم المشكلات والأزمات المزمنة التي تعاني منها الكنيسة السريانية الارثوذكسية، وجسامة التحديات التي تهدد وحدتها ، ككنيسة جامعة لكل سريان العالم. لقد توارث البطريرك افرام، مع الكرسي البطريركي، عن سلفه البطريرك زكا ، حملٌ كنسي ثقيل، في زمنٍ تراجعت سلطة الكنيسة على الرعية.
الكثير من سريان سوريا تفاءلوا باعتلاء ابن القامشلي عرش الكنيسة السريانية الأرثوذكسية . لكن بعد عام ونصف العام على جلوسه على العرش، عادت مشاعر الاحباط واليأس تسيطر من جديد على المجتمع السرياني. حتى أن الكثيرين بدأ يشكك بقدرة البطريرك افرام على قيادة السفينة السريانية وسط العاصفة السورية والوصول بها الى بر الأمان. كرجل دين يترأس مؤسسة روحية، كان الأنسب للبطريرك ولسريان ومسيحيي سوريا عموماً ،أن ينتهج ،سياسية “النأي بالنفس” عن حرب داخلية في بلاده، والوقوف على مسافة واحدة من جميع اطراف الصراع . لكن البطريرك افرام، انحاز الى جانب الأسد في حربه علىالسوريين الثائرين على حكمه. يبدو أن البطريرك، فضل تجنب عواقب إغضاب نظام دكتاتوري مستبد، على ارتدادات محتملة والغير مباشرة للحرب السورية .هذا يفسر تماهي وتماثل خطاب البطريرك افرام، المتعلق بالأزمة السورية، مع خطاب النظام. حتى أن طريقة مقاربة قداسته لمشكلات كنيسته تبدو متأثرة كثيراً بطبيعة علاقته مع أهل الحكم بدمشق . أصدر البطريرك كتاباً رقم( 662 تاريخ 16- 10- 2016 ) ينذر فيه أحد الكهنة، جاء فيه. “بناء على تقرير فرع مكافحة جرائم المعلوماتية التابع لادارة الأمن الجنائي بدمشق ، والذي يشير الى ارتباطك غير المباشر مع بعض صفحات التواصل الاجتماعي والتي اسست بهدف زرع الشكوك في قلوب المؤمنين، والاساءة الى سمعة الكنيسة المقدسة وإكليروسها وابنائها وبناتها…وكذلك استمرارك المتعمد بالإدلاء بتصاريح اعلامية بدون إذن منا .”. أنه لأمر مستغرب ، أن يقوم بطريرك بمعاقبة كاهن أو راهب لديه، لأسباب تتعلق بنشاط اعلامي، خاصة بعدم وجود ناطق رسمي يتحدث لوسائل الاعلام باسم الكنيسة السريانية الارثوذكسية. أنه لقرار مستهجنأن يحكم قداسته على كهنة وربان، اعتماداً على تقارير ومعلومات الأجهزة الأمنية لنظام مستبد، تفتقر الى الحد الأدنى من النزاهة والمصداقية والشفافية في تعاملها مع المواطنين السوريين. مشكلات الكنيسة السريانية الارثوذكسية،أعقد وأكبر من أن تحل بقرارات ارتجالية مشكوك بشرعيتها القانونية ،على طريقة الحكام المستبدين ، بتجميد مطران هنا وإقالة وعزل آخر هناك أو طرد كاهن وراهب من هذه الابرشية أو تلك. الاجراءات العقابية في المؤسسات الروحية،غالباً تكون نتائجها عكسية على المؤسسة والرعية معاً. بالفعل ، بدأت تظهرالنتائج والارتدادات السلبية والخطيرة لقرارات غير مدروسة ولكتب مشبوهة. فقد تمرد العديد من المطارنة عن طاعة وسلطة البطريرك. للمرة الثانية تقوممجموعة من شباب السريان باقتحام مقر المطرانية في مدينة القامشلي احتجاجاً على غياب الشفافية عن مواقف وسياسات البطريرك افرام . بدأت تتعالى اصوات المطالبين بنقل الكرسي البطريركي من دمشق الى إحدى الدول الأوربية حيث تقيم فيها جاليات سريانية مهمة. البعض يطالب بأن يكون لسريان المهجر بطريرك خاص بهم، مستقلاً عن بطريرك دمشق ، بعد أن بات الكرسي البطريركي للكنيسة السريانية، أسير سياسات وإملاءات حكام دمشق. أنها تطورات خطيرة، تنذر بما هو اسوأ ، وهي تضع وحدة الكنيسة السريانية الارثوذكسية الأنطاكية، ككنيسة جامعة لكل سريان العالم، على المحك.
في الوقت الذي لا يتردد البطريرك افرام بمعاقبة بعض الأساقفة والكهنة على مخالفات مسلكية شكلية، هو لا يحرك ساكناً حيال الأزمات الحقيقية الغارقة بها كنيسته، خاصة آفة الفساد المالي والأخلاقي التي بدأت تنخر بجسد الكنيسة السريانية وتنال من سمعتها ومكانتها. نشير هنا الى فضيحة الفساد في الكنيسة السريانية بدولة السويد. (حيث وجه الادعاء العام السويدي تهماً لـ 17 شخصاً من أعضاء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في ستوكهولم، بينهم النائبالبطريركي. وذلك للاشتباه بارتكابهم أعمال احتيال خطيرة ضد مؤسساتحكومية ومحاولة استغلال أبرشية الكنيسة للمنافع الشخصية. وقد حُكمالمسؤول عن كنيسة القديس بطرس وبولص، بسجنه ثلاث سنوات ونصف بتهم تتعلق بالفساد والاحتيال.) لست هنا في موقع الدفاع عن أحد، وإنما أكتب حرصاً وخوفاً على الكنيسة السريانية ، هذا الارث الحضاري المشرقي العريق من الثقافة واللغة والأدب والفن، لشعب بلاد ما بين النهرين وسوريا الكبرى(التاريخية). من الخطأ النظر للكنيسة السريانية على أنها مجرد “شعائر و أكليروس و دور للعبادة”. الكنيسة السريانية هي (هوية وثقافة وتاريخ ) شعب . أنها – بالشراكة مع شقيقاتها (الكنائس الآشورية والكلدانية)- بمثابة “الوطن البديل” للشعب الآشوري(سرياناً وكلدناً) هُجر من وطنه التاريخي(بلاد ما بين النهرين- بلاد آشور) ، تشتت في مختلف أصقاع العالم.
الفرصة مازالت سانحة أمام قداسة البطريرك افرام الثاني كريم، لإنقاذ كنيسته من خطر الانقسام والتشظي ومن خطر ارتدادات العاصفة السورية الهوجاء. الإنقاذ يبدأ : 1- بمراجعة قداسته لجميع قراراته ومواقفه وتبني خطاباً وطنياً سوريا أكثر توازناً ، حيال الأزمة السورية، يتمحور حول المصالح الحقيقية للسريان الآشوريين السوريين ومصالح الشعب السوري والبقاء للوطن السوري ، وليس لحكم الأسد ونظامه.2- طي جميع الكتب والقرارات العقابية التي اتخذها بحق بعض الأساقفة والكهنة والرهبان ، حتى وإن بدرت منهم بعض المخالفات والأخطاء . 3- اعادة النظر بتركيبة وصلاحيات “المجمع المقدس”، باعتباره اعلى سلطة تشريعية ودينية وروحية وإدارية في الكنيسة الأنطاكية السريانيةالأرثوذكسية ، على أن يُشكل المجمع مناصفة بين الأساقفة والعلمانيين/مدنيينبرئاسة البطريرك. 4- وضع دستور جديد للكنيسة السريانية، تعدل فيهصلاحيات البطريرك (الرئيس الأعلى للكنيسة والمدبر العام لشؤونها الدينية والروحية والادارية والمشرف على شؤونها المالية)، دستوراً يتماشى مع التطورات والمتغيرات الثقافية والفكرية والمجتمعية، التي طرأت على الكنيسة السريانية .
سليمان يوسف يوسف… باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات
shuosin@gmail.com
المصدر ايلاف