السريالية كلمة فرنسية الأصل وتعني (ما فوق الواقع)
وهي تعبير عن مكنونات العقل الباطن بطريقة يعوزها النظام والمنطق,وهي منهج ثقافي في مجالي الأدب والفن الحديث, وتعتبر طريقة من طرق الابداع في نطاق الفن والادب
لكن هذا المنهج يتحول الى وسيلة لتسويق الوهم,
حين يستخدم في نطاق شرح او تأويل نصوص لها علاقة مباشرة بالمعتقدات و التفسيرات اللاهوتية.
يستعرض العهد القديم من الكتاب المقدس ,في اول
اسفاره والموسوم بسفر( التكوين) قصة الخلق, ابتداءا من خلق الارض والسماء, ومن ثم خلق الحيوانات والنبات, وخلق الانسان الاول, بجنسيه الذكر والانثى, ثم يتسلسل بسرد قصة أول خطيئة للإنسان, وطرده من جنة عدن, ويستمر السفر في سرديته, التي تصف تسلسل الأحداث التي واجهها
(ادم و حواء) وابنائهم على الارض لاحقا.
إن القارئ لسفر التكوين,وخصوصا اصحاحاته الثلاثة
الاولى, سيتعرف بلا ادنى شك على طفولية الفكر الإنساني في تلك الفترة التاريخية المبكرة, حيث تطغى الصبغة البدائية على التصورات الساذجة لمنظومة الأفكار والمعتقدات التي حاول كاتب او كتبة هذا النص تأصيله ! (البعض ينسب كتابته الى موسى والبعض ينسبه لعزرا الكاتب بلا
دليل تاريخي موثوق)
وبعد مرور مئات السنين, ومع تحول هذه السردية الى
نص مقدس, اصبحت امام اللاهوتيين المتصدين لشرح ونشر العقيدة المستندة الى هذا النص مشكلة كبرى! فهذه النصوص بما تحويه من تصورات بدائية في المخيال الطفولي للمدونين, اصبحت لا تتوائم مع تطور الفكر الانساني ونضوج الوعي واتساع المدارك والتصورات المستندة الى الحقائق
, فكان لزاما والحال هذه, ان يلجأ اللاهوتيون الى اسلوب ومنهج جديد, من اجل ادامة زخم القداسة والفخامة الاعتبارية لتلك النصوص, وبناءا عليه,تم استحداث ما يعرف ب(الهرمنيوطيقا)
ان منهجية تفسير النصوص , موجودة في كل الاديان التي تستند
الى نصوص مقدسة, لكن ما يميز التفسيرات اللاهوتية للنصوص التي تتعاطى معها المسيحية بالذات( الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد) هو استغراقها في الخيالية السريالية, وتحميل النصوص معاني وتأويلات , لا تحتملها, مع عدم الخضوع لأي ضابط منطقي او فلسفي, وبلا اي اعتبار
لظواهر تلك النصوص!
في هذا المقال, سنستعرض الإصحاح الثالث من سفر التكوين,
كدليل على الكلام المتقدم, مع الاشارة الى اهمية هذا السفر, لأنه يؤسس لتأصيلات مهمة جدا في العقيدة المسيحية, مثل خطيئة الانسان الاول, والعلاقة بين الإنسان والشيطان, وهذه التأصيلات سوف تستند عليها العقائد الرئيسية للمسيحية ,مثل عقيدة الفداء والتجسد.
وادعو جميع القراء,الى قراءة هذا الاصحاح , ليس فقط,
من اجل اهميته المذكورة أنفا, وانما ايضا, لما يحتويه هذا النص من طرافة ممتعة, نتيجة غرابة التناقضات التي يحتويها !
بعد ذكر قصة خلق السماء والأرض, وخلق الإنسان الأول, وزوجته,
واسكانهم في جنة عدن, وبعد ان طلب الله منهما ان لا يأكلا من احدى الاشجار, لان العقوبة على هذا العمل ستكون الموت.
يبدأ الاصحاح الثالث من سفر التكوين, بذكر (الحية) ويصفها
بأنها (احيل) جميع الحيوانات البرية المخلوقة, ثم يتطرق الاصحاح الى قضية اغواء الحية للمرأة, وتشجيعها على الأكل من الشجرة المحظورة, بعد ان اخبرتها, بان هذه الشجرة سوف تجعلهما يميزان بين الخير والشر, وانهما لن يموتا في حال أكلا من تلك الشجرة.
اكلت المرأة من ثمر الشجرة, وأعطت رجلها,فأكل هو الآخر,
فكان العصيان الاول للامر الالهي!
وفورا, انفتحت عيونهما, وادركا انهما عراة, فحاولا ان
يسترا نفسيهما باوراق الاشجار, و بعد ذلك…
(وسمعا صوت الرب الاله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار
فاختبا ادم و امراته من وجه الرب الاله في وسط شجر الجنة,فنادى الرب الاله ادم و قال له اين انت؟!!!!
فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لاني عريان فاختبأت
فقال من اعلمك انك عريان هل اكلت من الشجرة التي اوصيتك
ان لا تاكل منها؟!!!) سفر التكوين 3
وبعد ان اكتشف الاله, حدوث الخطيئة,أقام ما يشبه المحاكمة
الفورية السريعة, لشخصيات الحدث الثلاثة
فكانت عقوبة الحية
(لانك فعلت هذا ملعونة انت من جميع البهائم ومن جميع وحوش
البرية على بطنك تسعين و ترابا تاكلين كل ايام حياتك)
وعقوبة المرأة …( تكثيرا اكثر اتعاب حبلك بالوجع تلدين
اولادا والى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك!!)
اما الرجل, فكانت عقوبته ان الارض اصبحت ملعونة بسببه,
وان سوف يحيا عليها, بالتعب والكد من اجل تحصيل لقمته
ويذكر النص ايضا, ان الاله قرر ان يجعل عداوة ابدية بين
نسل الحية ونسل المرأة, وهذا القرار الالهي سوف نتوقف عنده مليا في المقال القادم, لانه يمثل اولى النبوءات, المتعلقة بيسوع المسيح حسب التفسير المسيحي لهذه القصة!!
و من خلال استعراض تسلسل احداث الاصحاح الثالث, سنكتشف
تناقضات طريفة وغريبة!
على سبيل المثال, نجد ان الحية كانت صادقة حين اخبرت ابوينا
عن طبيعة الشجرة, وانهما لن يموتا اذا اكلا منها!
وقد تحقق بالفعل ,ما قالته الحية, حيث اصبحا عارفين للخير
والشر, ولم يموتا بعد ان أكلا من الشجرة
وهنا نجد المفسرين,قد وقعوا باضطراب وحيرة, فقام كل فريق
بمحاولة ايجاد تفسير مغاير لمعنى الموت الوارد في النص
بعض المفسرين, حاول التبرير, بان المعنى هو ان الموت سيكون
النتيجة النهائية للانسان, وانه بعصيانه الأمر قد تم حرمانه وذريته من الخلود في الجنة!
وهذا القول مردود, وغير صحيح, لان نفس النص المقدس, يخبرنا,
بان الإله قرر طرد ابوينا من الجنة لانهما اصبحا يعرفان الخير والشر, وانهما قد يأكلان من شجرة الخلود فيصبحا خالدين مثل الاله!!!
(وقال الرب الاله هوذا الانسان قد صار كواحد منا عارفا
الخير والشر والان لعله يمد يده وياخذ من شجرة الحياة ايضا و ياكل و يحيا الى الابد!!) تكوين 3/22
بعض المفسرين, اضطروا للخروج من هذه الاشكالية ,الى تفسير
الموت الوارد بالنص على انه موت روحي!!
وهذا تأويل متكلف, لا يحتمله ظاهر النص, وان كان فيه هروب
من المأزق!
ونجد ايضا في النص,امر اخر, لافت وغريب, وذلك فيما يخص
عقوبة المرأة, حيث نجد ان القرار الإلهي جعل لعنة العقوية على المرأة أبدية, وشملت أوجاع ومعاناة الحبل والولادة,وكذلك ستتسبب لعنة العقوبة بجعل المرأة في حالة اشتياق دائم الى الرجل( وليس العكس!) وان الرجل سيكون سيدا ابديا عليها !
ونلاحظ هنا, ان هذه العقوبة او اللعنة لم تقتصر فقط, على
(حواء) وانما امتدت لتشمل كل النساء اللواتي من نسلها (رغم أنهن لم يقترفن الذنب) ونلاحظ ايضا, ان هذه العقوبة جاءت في صالح الرجل في بعض جوانبها !!
ومع استعراض محاكمة وعقوبة شخصيات الحدث( الحية,المرأة
والرجل) يبرز هنا تساؤل مهم جدا وهو:
اين الشيطان في القصة التي تمثل الحدث الأخطر في تاريخ
البشرية؟!
القارئ لنصوص الأصحاحات الاولى لسفر التكوين,لن يجد أي
ذكر للشيطان, حتى في قصة خطيئة الإنسان الاولى ,والتي تسببت في طرده من الجنة, ليس هناك اي ذكر او اشارة للشيطان!!
حيث يذكر النص بشكل واضح وصريح ان الحية هي السبب في غواية
الانسان ,وانها نتيجة لذلك نالت عقوبتها!!
ان هذا التساؤل المهم جدا, دفع اللاهوتيين الى البحث عن
تأويلات سريالية لغرض تفسير هذا الخلل الواضح في القصة!
ولم يجدوا حلا, الا من خلال الادعاء بأن الحية هي مجرد
رمز للشيطان!
ان هذا التفسير اللاهوتي, قد اوقع اصحابه في مأزق أكثر
حراجة وضيقا من المأزق الاصلي!
فلو قبلنا ان (الحية) المذكورة في القصة ,هي مجرد رمز
للشيطان, وليس المقصود منها ذلك الحيوان المسكين!
ولو قبلنا ايضا, تفسير بعضهم, ان الشيطان قد تسلل للجنة
متجسدا بشكل الحية, ولم يعلم الاله بهذه الخدعة!
فكيف يفسر لنا اللاهوتيون, حقيقة ان الافعى( الحية) هي
التي اكلت العقوبة ,ولا زالت الى يوم الناس هذا تأن تحت وطأتها!
فحيوان الافعى(الحية) لا زالت تزحف على بطنها,ولم يخبرنا
الكتاب المقدس, كيف كانت الحية تسير قبل هذه الحادثة؟
هل كانت تطير مثلا؟ او كان لها أقدام تمشي عليها؟ قبل
ان يعاقبها الاله بالزحف وأكل التراب !!!
وعندما يرجع القارئ الى تفسيرات اللاهوتيين المسيحيين
لهذا النص( القدماء منهم والمعاصرين) سيجد تشكيلة عجيبة من التنطعات التأويلية من اجل اضفاء واقعية عليه وجعله يتسم بالمصداقية التي تتسق مع العقل والمنطق والحقائق!
فمثلا, عندما يتطرق المفسرون الى خرافة ان عقوبة الحية
هي ان تأكل التراب طوال عمرها!
نجدهم يحاولون ايجاد مخرج لهذه الخرافة الغير قابلة للتصديق,
فتارة يقول بعضهم ان المعنى هو ان الحية تأكل طعامها مخلوطا بالتراب!…وكأن بقية الزواحف لا تأكل طعامها الا بعد ان تغسله بالماء والصابون!!
وتارة اخرى, يقول اخرون, ان معنى التراب هنا هو اقتراف
الاثم! من غير ان يوضح اي اثم يرتكبه حيوان الافعى بزمننا!
وسواء قبلنا ان المقصود ب(الحية) هو الشيطان او قبلنا
ان المقصود هو الافعى (الحيوان), تبقى الحقيقة الطريفة في هذه القصة التوراتية, ماثلة و لاتتأثر , وهذه الحقيقة تتلخص في ان الشيطان( الفعلي) نجا من العقوبة ,وخرج من القصة سالما
بعد ان لبست ( الحية) بدله , التهمة, وحملت العقوبة الى
الابد!
وأمام حقيقة تناقض هذا النص وبدائية فكرته المستندة على
تصورات ومشاهدات ساذجة, تعامل اللاهوتيون المسيحيون مع هذه الاشكالية, على طريقة الهروب للأمام, من خلال إضفاء تفسيرات سريالية باهتة, في محاولة لإضفاء نوعا من الإيحاء الرمزي بمعاني باطنية عميقة, لكي يستفيدوا منها في تركيب احجار البناء العقدي للايمان المسيحي, وتحويل
هذا النص الطفولي في الفكرة والبناء, الى أساس لعقيدة مبنية على خيال مغلف بقداسة مصطنعة,قائمة على تلاعب باللفظ والمعنى!
وللحديث صلة….
د. جعفر الحكيم
عندما تربي ابنك على الفضيلة وحسن الأخلاق تتوقع انه يتصرف بحكمة ولكن ماذا لوجهاء صديقه ودفعه لتعاطي مخدرات من الجاني في هذه الحالة ابنك ام صديقه ومن يستحق العقوبة