يحاصر جيش بشار الأسد شعب الغوطتين وحمص منذ نيف وعام. وبعد أن عجز عن كسر إرادة شعب هاتين المنطقتين بالقوة، ها هو يقرر شطبه من الوجود بالحصار والتجويع، ويفرض عليه طوقا من حديد ومرتزقة لا ثغرة فيه، ويتركه للموت جوعا وتحت وابل من القصف المستمر، الذي لا يتوقف ليلا أو نهارا.
تقول الأخبار القادمة من المناطق المحاصرة إن سعر كيلو السكر وصل إلى 3000 ليرة سورية، إن توفر في الأسواق، وكان قبل الحصار 169 ليرة. أما كيلو الرز فهو بـ2200 ليرة، إن وجد، وكان بخمسين ليرة، في حين غاب الخبز غيابا تاما عن حياة المواطنات والمواطنين، حتى صار من غير الممكن إيجاد ولو رغيف خبز واحد في أي مكان. وقد روى لي صديق أنه كان يحمل قبل شهر أربعة أرغفة إلى بيته، لكنه لم يتمكن من إيصال رغيف واحد منها إلى أطفاله، لأنه قدمها في الطريق إلى أطفال انتفخت بطونهم، طلبت أمهاتهم إليه كسرة خبز لصغارهن. بينما ماتت طفلة وليدة جوعا بعد ستة أيام من ولادتها دون أن تذوق نقطة حليب واحدة، لأن أمها، التي توفيت بعدها بأربعة أيام، لم تكن قد تناولت أي طعام قبل ولادتها بعشرة أيام.
عجز الجيش الأسدي عن استعادة الغوطتين الغربية والشرقية بالقتال، فحاول أول الأمر استعادة بعض قراهما وبلداتهما بالاحتيال، وطلب من المدافعين عنها السماح له برفع علمه فوق بعض المآذن مقابل فك الحصار عنها. وحين رفض المقاتلون عرضه الاحتيالي المكشوف، وأفهموه أن المؤمن لا يلدغ من جحر الأفعى الاستبدادية ألف مرة، شن حملات قصف واسعة ومكثفة ضد المدنيين بالتحديد، وشدد حصاره عليهم، وسد جميع المنافذ التي يمكن أن تصلهم بالعالم الخارجي، قبل أن يشجع مرتزقته على شراء ما كان موجودا في أسواقهما من سلع غذائية شحيحة، لإفراغها منها وتجويع سكانها. هكذا، ارتفع سعر كيلو الرز من 260 إلى 2200 ليرة، قبل أن يغيب كليا عن الأسواق. واختفى السكر بدوره بعد أن كان قليلا إلى حد الندرة، ولم يعد هناك ما يؤكل أو يشرب، وبدأ الناس يموتون جوعا بصورة يومية، وتزايدت أعداد موتاهم يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، حتى صار شبح الموت مخيما فوق قرابة مليوني إنسان يعيشون في المناطق المحاصرة، التي لم يتوقف قصفها لحظة واحدة، وتقف اليوم على مشارف مأساة إنسانية قد تودي بحياة الآلاف من بناتها وأبنائها، بينما يستمتع العالم ببؤسه في كل ما يتعلق بسوريا، ويتغنى بنجاحه في انتزاع الكيماوي لصالح إسرائيل من المجرم الذي لم يستخدمه ضد أحد غير مواطنيه، وفق معادلة حدها الأول أمن وسلامة من كان نظام الخيانة يسميه «العدو»، وحدها الثاني إبادة السوريين بجميع الوسائل. هذه المعادلة سمحت للأسد باستخدام كل ما في حوزته من أسلحة تقليدية ضد الآمنين ومناطقهم، وجنبه غضب أميركا، التي أكدت ما كان وليد المعلم يقوله دوما، وهو أنها لن تفعل شيئا ضد النظام، بل كان موقفها من الكيماوي بمثابة ضوء أخضر أعطي له ساعة بلغ يأسه من البقاء حد الشروع في الفرار، وقد مارسه بالفعل معظم قادته العسكريين والمدنيين، وكان هو نفسه غير بعيد عنه.
يستخدم النظام اليوم سلاحا من أفظع أسلحة الدمار الشامل فتكا وهو التجويع، وسط صمت عالمي وتجاهل تام من مؤسسات الشرعية الدولية، التي تكتفي بموقف وعظي عاجز، يعبر عن استيائها مما يجري وإحجامها عن اتخاذ أية تدابير عملية ضد المجرم، مع أنها كانت تستطيع التظاهر بأنها تفكر بالإقدام على معاقبته، بعد أن فضحت أفعاله حقيقة علاقته الإجرامية مع الشعب السوري، وكشفت طابعها غير السياسي وغير الوطني وغير الإنساني، وأظهرت ما اكتنفها دوما من عنف وشابها من سمات عدائية تبز في فظاعتها تلك التي كانت للاستعمار الخارجي، وتأكد أن الأسد لا ينتمي إلى شعب سوريا، بل يقتله بالجملة والمفرق لأنه لا يناصره، كما أنه ليس رئيسه، لأنه يستمد اليوم شرعيته من موته وليس من تدبير شؤونه ووضع نفسه في خدمته، ويعيد إنتاج نظامه منذ الثورة ويرسيه على عنف شامل هدفه إبادة من كان يسميهم «إخوته» المواطنين، أقام على ممارسته إجماع عصاباته من حوله وولاءهم له.
لن ينجح التجويع في كسر شوكة شعب يمشي نحو حريته وسط بحر من دمائه. هذا ما يقوله المحاصرون، بعد نيف وعام من التجويع وسقوط أعداد كبيرة من الشهداء جوعا وبالرصاص، وهم يطالبوننا بفك قبضة الموت عن أعناق أطفالهم وشيوخهم، وإنقاذ من تبقى حيا منهم، كي لا تكون سلبيتنا رديفا – غير المقصود طبعا – للمخطط الأسدي، ونجد أنفسنا في مواجهة هياكل عظمية تقاتل من أجل حريتنا، بينما نتقاعس نحن ونحجم عن مساعدتها بما نستطيع، ونبخل عليها بالدعم، وببعض ما عندنا، وهو كثير كثير!
منقول عن الشرق الاوسط