في مقالتي الاخيرة حاولت مناقشة العلاقة الجدلية بين ثنائية الجينوسايد و القانون … هنا في هذه المقالة اود ان أضع الفكرة في موضع تجربة عراقية ما تزال تتفاعل رغم ازالة العوامل المؤسسة لها… على الأقل قانونيا و سياسيا…
نبدأ ببعض التساؤلات الأولية…كيف يمكن ان تستمر هذه المأساة في ظل وجود تحولات كبيرة في المجتمع..؟؟ … سؤال يقودني الى ابداء بعض الملاحظات المهمة قبل الدخول في شرح ملابسات التجربة و أسباب تفاعلها رغم التغييرات السياسية…
اولا… وردتني بعض رسائل العتاب من عاملين في الشأن القانوني و لذلك لابد ان أوضح باني لا أتحدث عن أولئك القضاة الذين يشرعنون اعمال الجينوسايد بسبب مصالحهم الخاصة سواء كانت هذه المصالح هي إيجابية نفعية او سلبية إنقاذا للنفس على حساب الأمانة القانونية و الاخلاقية… و إنما أتحدث عن النظام القضائي كجزء من نظام الدولة…
ثانيا… العلاقة بين النظام القضائي و النظام العام لابد ان نتذكر ان القضاة هم جزء من الشعب رغم اختصاصهم الذي يستدعي مثل اي اختصاص اخر أن يتفاعلو بشكل موضوعي مع القضايا التي تعرض عليهم… و بعيدا عن التداخل الفلسفي و السايكولوجي بين الذاتية و الموضوعية و الذي لا يمكن وضع خطوط واضحة للحدود بينهما… الا ان هناك أيضاً تداخلا مماثلا بين المسؤولية الاخلاقية و العلمية من جهة و المسؤولية المجتمعية و السياسية من جهة اخرى..
ثالثا…و لكي نفهم المعادلة لا بد ان نذكر ان المرجع الأساسي للنظام هو ليس التراكم التاريخي للقوانين سواء في مجتمع معين او من خلال تجارب المجتمعات الاخرى… هناك عاملين مهمين يدخلان بشكل في الصيغ القانونية و هما القيم الاخلاقية الفلسفية و الدينية و الاجتماعية و الثقافية التي يؤمن بها أفراد المجتمع او القادمة من الخارج باي القانون الدولي و غيره… و العامل الثاني هو ضرورة مراعاة التطور السياسي و الاقتصادي في البلد… و هذا يعني ان النظام القانوني يمثل حالة توازنية بين العناصر المختلفة و المتعارضة داخل كل من هذا العاملين و مثيلاتهم في العامل الثاني..
رابعا…بناء على الأساس فان المفهوم الذي اقصده للعلاقة الجدلية بين الجينوسايد و القانون يمكن فهمه وفق هذه المعادلة:…الجينوسايد هنا لا يتعلق بدور النظام القضائي و إنما يتعلق بالقانون المجتمعي و هو محصلة تقاطع تأثير العناصر الواردة في العاملين المذكورين أعلاه و التي توضع في إطار قانوني ليعبر عن مصلحة مجتمعية (تسمى وطنية) للقيام بإجراء عقاب جماعي ضد مجموعة من بشرية منتمية الى المجتمع … بكلام ان القانون يعبر عن رغبة عامة بالتخلص من مجموعة الشعب لأجل المصلحة العامة.. او هكذا يتم تصوير الموضوع…
هذا بالضبط ما حصل في قضية الكورد الفيليين… اعتبرهم النظام أعداء الشعب… و هكذا تفاعلت كل الأجهزة التابعة مباشرة للنظام و لكن أيضاً المؤسسات المكونة للدولة … فقد تم اختصار الدولة من قبل النظام السياسي و كذلك تم تجاوز الرأي العام العراقي من قبل أيديولوجية الحزب الحاكم… و امام أنظار الجميع تم اخراج آلاف العوائل من بيوتهم منتصف الليالي بملابس النوم و وضعوا في سيارات عسكرية تقودهم الى المناطق الحدودية الوعرة بين العراق و ايران لتنتظرهم عصابات تتعاون مع النظام لكي تستولي على البقية الباقية من حياة هؤلاء البؤساء من الكورد الفيليين و هي ملابس نومهم و أنوثة نسائهم…
كانت المشاهد التي تكررت عبر فترة طويلة توحي بأكبر معرض للاغتصاب خاصة ان اغلب الرجال قد تم وضعهم في سجون خاصة تمهيدا لاستخدامهم في تجارب السلاح الكيمياوي الذي استخدم لاحقا أيضاً ضد الكورد في حلبية… و لذلك فان الغالبية العظمى ممن وضع على الحدود كانوا من النساء و الأطفال و بعض كبار السن…كثير من هؤلاء ماتوا من الجوع و العطش و كثير من النساء تعرضن الى الاغتصاب… مشهد يذكرنا بمأساة الأرمن في تركيا العثمانية رغم ان التجارب التاريخية متعددة.. و في الحقيقة فان العراق لوحده يقدم الكثير من التجارب المماثلة…
المهم في الموضوع هو ان النظام القضائي لم يبدي اي اعتراض على هذه الإجراءات الرهيبة كما لم يفعل اي من العشائر او المكونات الشعبية … و هكذا اصبح الجينوسايد و كأنه امر طبيعي و هذا ما يذكرنا بالضحية في الأساطير و الثقافات القديمة فالجميع يشترك في عملية قتل الضحية دون ان يطرح احد اي سؤال عن حق الضحية في الحياة…
هذه الثقافة ما تزال للأسف قائمة و تعشعش في مخيلة و ضمير الكثيرين في المجتمع رغم ان العديد من القوى و الأحزاب تدعي الدفاع عن حقوق الانسان بل و تخرج بين الحين لتدعي الدفاع عن حقوق الكورد الفيليين… و هذا هو السبب في استمرار تفاعل هذه المأساة…بل و في انتاج تجارب رهيبة اخرى في العراق …
بكلمة اخرى…..جثث الكورد الفيليين نبتت في كل مكان في العراق و أرواحهم نبتت في السماء و لكن ذكراهم لم تنبت في ضمائر السياسيين و السلطويين…