عبد القادر أنيس
أواصل في هذه المقالة قراءة كتاب محمد الغزالي (حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة).
تتناول هذه الحلقة التاسعة فصل: “الرجل والمرأة في المجتمع” كما صاغها الغزالي. (ص 65). لكن أغلب كلام الشيخ كان يدور حول المرأة بين الإسلام والمدنية الحديثة.
من الناحية التسلسلية لقراءة كتاب الغزالي، فقد كان من المفترض أن أتناول الفصل الأخير من الحريات: الحرية المدنية. لكني ارتأيت تجاوز هذا الفصل، حتى أتجاوب مع تلبية دعوة الحوار المتمدن لإحياء اليوم العالمي للمرأة.
وقد جهد الشيخ خلال صفحات طويلة ليثبت لنا وجهة النظر الدينية الإسلامية وتفوقها على ما سواها في الموقف من المرأة من حيث الحقوق الاجتماعية والسياسية والفكرية.
الغزالي يقرر في بداية هذا الفصل بأنه “ليس هناك فارق بين الرجل والمرأة في الحقوق والحريات.. فكلا الجنسين صنو للآخر في قصة الحياة الإنسانية من بداية الخليقة حتى المصير الأخير”.
ثم يقول: “وما شاع في أذهان بعض المتدينين أن النساء خَلْقٌ أدنى من الرجال لا سند له من دين الله”
يقول هذا رغم أنه قال قبل قليل: “إن حواء خلقت من آدم كما نبأنا القرآن الكريم: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها”، وهنا ينتقي الشيخ ما يحلو له ويتستر على الحقيقة فأغلب تفاسير القرآن تقدم صورة متحيزة عن الخلق ضد المرأة؛ نقرأ في تفسير ابن كثير: “وخلق منها زوجها ” وهي حواء عليها السلام خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم فاستيقظ فرآها فأعجبته فأنس إليها وأنست إليه” . وعن ابن عباس قال : خلقت المرأة من الرجل فجُعِلت نهمتها (شهوتها) في الرجل وخلق الرجل من الأرض فجعلت نهمته في الأرض فاحبسوا نساءكم”. وفي الحديث الصحيح من خطبة الوداع ” إن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج”. وفي هذه الخطبة نجد أيضا: “ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم” و”عوان” تعني أسيرات. والدين هنا لم يفعل تجاه المرأة سوى أنه قنن واقعا عبوديا كان ساريا.
فمن نصدق؟ أهو صحيح الموروث الديني الذي عمل به المسلمون طوال قرون أم قول الغزالي: “وما شاع في أذهان بعض المتدينين أن النساء خلق أدنى من الرجال لا سند له من دين الله”؟
ثم يعترف الغزالي بالتمييز بين الرجل والمرأة في شريعته ولكنه يتحايل لتبريره، كأن يقول: “وكل ما صنع الدين أنه وزع الاختصاصات العملية توزيعا يوافق طبائع الذكورة والأنوثة. وبالتالي خفف عن النساء بعض الأعباء وألزمهن بعض الوصايا”.
هكذا إذن خفف الإسلام عن المرأة بعض الأعباء. فماهي؟ في الصلاة والصيام حسب الغزالي !!
فيا له من تخفيف بائس إذا عرفنا كم عانت نساؤنا ومازلن من شريعة الإسلام التي أهدرت أهليتها العقلية والنفسية واعتبرها إنسانا ناقصا عقلا ودينا بصحيح الكتاب والسنة “النساء ناقصات عقل ودين”، إلا أن الغزالي يقدم تبريرا سخيفا وساذجا لهذا الحيف. فيقول: “ولما كانت المرأة تتأثر نفسيا وعاطفيا بهذه الدورات البدنية التي تعتادها، وكثيرا ما ينحرف مزاجها مما يجعلها مظنة خطأ في تصوير ما تشاهد من أحوال الناس وأحداث الحياة احتاط الدين في القضاء في شهادتها منفردة وضم إليه للاستيثاق شهادة امرأة أخرى”.
لو كان تفسير الشيخ لهذا التمييز العنصري في حق المرأة صحيحا فلماذا لم ينص دينه على جعل شهادة المرأة ناقصة فقط عندما تكون في هذه الحالات؟ ولماذا عممها على باقي عمرها؟ إنه حكم بائس وخطير في نفس الوقت، ولو عملنا به اليوم فمن الواجب على إداراتنا أن تمنع النساء من التعليم والطب والقضاء (طبعا عندنا قاضيات في الجزائر، وهن أكفأ من الرجال وأشجع)، وكل المهن التي تضطر المرأة لاتخاذ قرارات خطيرة مثل العمليات الجراحية ومثل الحكم في القضايا الجنائية ومثل تربية الناشئة وتسيير المؤسسات وغيرها، إلا أننا نعرف أن كلام الشيخ كاذب، ولم نقرأ أي بحث علمي ولا دراسة جادة تثبت أن المرأة تفقد أهليتها العقلية أثناء الحيض والحمل والنفاس والرضاع كما قال الشيخ وتنسى بسرعة شهادة تافهة بينما تحتفظ الطبيبة أوالقاضية في رأسها بما يعادل مجلدات من العلوم والقوانين. ولا يصدق هذا الكلام إلا معتوه أو متحيز عنصري أو مريض نفسيا.
لكن الشيخ يلح: “الرجال هم المرشحون الأوائل لشغل المناصب الكبرى في المجتمع والدولة والخدمة العسكرية”، غير منتبه إلى أن أمة الإسلام يحكمها الرجال منذ قرون إلى اليوم بدون جدوى ولا أهلية، بينما حكمت الهند وبريطانيا وإسرائيل وغيرها نساء أثبتنا جدارتهن، بل وألحقن هزائم نكراء ضد أمة الإسلام التي يحكمها رجال لا يحسنون سوى التربع على العروش والإكثار من حريمهم وقمع رعاياهم بالتحالف مع رجال الدين.
وبما أن المثل الأعلى عند الغزالي هو (الحكم الراشد) الذي عرفه الإسلام في تلك الجنة الضائعة، فهو يقول: “والمعروف من تعاليمه أنه رفض رفضا باتا أسلوب الجاهلية في معاملة المرأة واستنقذ كيانها المادي والمعنوي من غمط (غبن) ظاهر بل من استهانة شنعاء”.
هل هذا الكلام صحيح؟ كلا، فما ورد في الكتاب والسنة وفي سيرة مؤسس الإسلام وصحابته يكذب تكذيبا قاطعا مزاعم هذا (المفكر) الإسلامي. لقد أهدر الإسلام أهلية المرأة وكرامتها ونفسيتها عندما أباح للرجل كل الممارسات اللاإسانية ضدها، من تعدد الزوجات إلى إباحة ملك اليمين (وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع … (حتى) وما ملكت أيمانكم) وأباح للغزاة المسلمين امتهان كرامة المرأة بالسبي والبيع والشراء والهدي، ثم فرض على النساء (عكس ما كان سائدا في الجاهلية) الحبس في البيت والحجاب ومنح الرجل الحق في تأديب المرأة بالهجر (لأنه يملك زوجات وجواري أخريات بينما يبيح للرجل نكاحها ولو على ظهر بعير) والضرب والتطليق بمجرد التلفظ بكلمة. أنقل للقراء من كتاب أبي حامد الغزالي المعروف بحجة الإسلام: (وقال سفيان بن عيينة: كثرة النساء ليست من الدنيا لأن عليا رضي الله عنه كان أزهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له أربع نسوة وسبع عشرة سرية)، وأيضا (ويقال إن الحسن بن علي كان منكاحا حتى نكح زيادة على مائتي امرأة وكان ربما عقد على أربع في وقت واحد وربما طلق أربعا في وقت واحد واستبدل بهن).
وأيضا: (وقال صلى الله عليه وسلم: اطلعت في النار فإذا أكثر أهلها النساء. فقلن: لم يا رسول الله؟ قال: يكثرن اللعن ويكفرن العشير (يعني الزوج المعاشر) وفي خبر آخر، اطلعت في الجنة فإذا أقل أهلها النساء فقلت: أين النساء؟ قال: شغلهن الأحمران، الذهب والزعفران، (يعني الحلي ومصبغات الثياب) وقالت عائشة رضي الله عنها: أتت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني فتاة أخطب فأكره التزويج فما حق الزوج على المرأة؟ قال: لو كان من فَرْقه إلى قدمه صديد فلحسته ما أدت شكره. قالت: أفلا أتزوج؟ قال: بلى تزوجي فإنه خير. قال ابن عباس: أتت امرأة من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إني امرأة أيّم (لا زوج لها) وأريد أن أتزوج فما حق الزوج؟ قال: إن من حق الزوج على الزوجة إذا أرادها فراودها عن نفسها وهي على ظهر بعير لا تمنعه (!) ومن حقه أن لا تعطي شيئا من بيته إلا بإذنه فإن فعلت ذلك كان الوزر (الإثم) عليها والأجر له ومن حقه أن لا تصوم تطوعا إلا بإذنه فإن فعلت جاعت وعطشت ولم يُتَقَبّل منها وإن خرجت من بيتها بغير إذنه لعنتها الملائكة حتى ترجع إلى بيته أو تتوب. وقال صلى الله عليه وسلم: لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها. وقال صلى الله عليه وسلم: أقرب ما تكون المرأة من وجه ربها إذا كانت في قعر بيتها وإن صلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في المسجد وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها والمخدع بيت في بيت وذلك للستر (يعني أنه كلما اشتد التضييق كلما كان ذلك أفضل للرجل ولدينه). ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: والمرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان. وقال أيضا: للمرأة عشر عورات فإذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة فإذا ماتت ستر القبر العشر عورات”.
وأنا هنا إذ أعتذر للقارئ عن هذه الاستشهادات الطويلة والمقرفة في حق المرأة إنما حجتي الوحيدة هي أن يعرف أتباع الغزالي، أو المخدوعين بهذا الفكر، الوجهَ الآخر للمسكوت عنه مما تستر عليه الغزالي ليسوّق لنا بضاعته، ولأؤكد جازما أن ما أوردته هنا من مواقف إسلامية مخزية هي التي عمل بها المسلمون وطبقوها في حق المرأة، أما ما أورده الغزالي فقد ظل نسيا منسيا طوال تاريخنا حتى جاءت الحداثة وأشرقت علينا شموس الغرب فقابلناها بالجحود، وحاربها رجال الدين وراحوا ينقبون في مخزونهم الديني عما يواجهون بهم حقوق الإنسان الغربية التي راحت أغلب بلدان العلمان تتبناها. ولقد تابعت كيف مارسوا خداعا واحتيالا على حديث نبوي كان مجهولا في تاريخنا: الحديث هو “طلب العلم فريضة على كل مسلم” ثم تطور فصار “طلب العلم فريضة على كل مسلم وقيل ومسلمة “، ثم طوروه فصار “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”. مثلما حمّلوا قول عمر بن الخطاب: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا” معاني لم يكن صاحب القول يعنيها، وهو الذي كان يملك العبيد والجواري والغلمان ويرسل بالجيوش لاحتلال أوطان الغير وسبي نسائهم.
وتحت عنوان: “الحرية الدينية مكفولة للمرأة كفالة مطلقة مثلها في ذلك مثل الرجل”: قرر: “وقد أباح الإسلام أن تبقى المرأة اليهودية أو النصرانية على دينها وهي زوجة المسلم وأم لأولاده… لكن الإسلام يرفض الزواج بالمرأة الملحدة التي لا تعترف بالألوهية أو المرأة التي تعبد الأصنام… والسر في ذلك أن أساس تكوين الأسرة وهو العشرة الزوجية التي يراعى وجه الله ويترك فيها الحرام ويقتصر على الحلال.. والملحدات يستبحن ما يحلو لهن، أما اللاتي لهن دين سماوي فإن ما وقر في نفوسهن من تعاليم السماء يحجبهن عن الرذيلة “.
وهو كلام يقطر كذبا وخداعا. فما هذه الإباحة في نكاح الكتابيات سوى توسيع جنسي لنزوات الرجل المسلم ليس إلا. ومع ذلك فحتى المرأة المسلمة لم تكن لها حرية دينية في الصيام مثلا خارج رمضان إلا بإذن زوجها بينما لا يشترط ذلك على الرجل. ثم أين الإنصاف في الزواج باليهودية والمسيحية إذا كان لا يحق لها مجرد تعريف أبنائها بدينها باعتبار الأولاد ملكا للرجل وباعتبار دينها كفرا أو على الأقل انحرافا عن الدين الصحيح. كذلك ينزل فكر الغزالي إلى الحضيض عندما يتهم الملحدات بأنهم “يستبحن ما يحلو لهن”، وهو ما يعني أن كل نساء الهنودوس والبوذيين والغربيين الملحدين هم من هذه الشاكلة، بينما كل النساء المسلمات والكتابيات شريفات لأنهن يخفن الله.
هذه هي الحرية الدينية التي هي مكفولة للمرأة كفالة مطلقة !!!! ثم يبلغ تحايل وخداع وسذاجة الرجل الدرك الأسفل عندما يكتب: “واحتراما لعقيدة المرأة المسلمة رفض الإسلام أن تتزوج رجلا من أهل الكتاب لا يؤمن بدينها وقد يتناول نبيها بالتجريح والإساءة إذ هو كافر به وهذا المسلك لا ينتظر من مسلم يتزوج كتابية إذ هو يحترم كل نبي سبق ويؤمن به إيمانه بنبيه”.
هل هو احترام لعقيدة المرأة المسلمة أم هو انغلاق ديني بغيض؟ ثم لماذا لا يقول أيضا إن الرجل المسلم قد يتعرض للكتابية وهو يتناول دينها بالتجريح والإساءة باعتباره محرفا من منظور الإسلام، وما فائدة أن يعترف المسلم بنبوة موسى وعيسى إذا كان يعتبر كتبهما محرفة وكافرة وكذلك أتباعها؟
ينتقل الشيخ إلى الحرية السياسية فيهدر أهلية المرأة لأسباب تافهة بتقريره: “والحق أن الإسلام لما قرر إعفاء المرأة في أثناء الحيض والنفاس من الصلوات المكتوبة كان متمشيا مع منطق الطبيعة في ضرورة الرفق بها.. وأن هذا التخفيف في تكاليفها الشرعية والعقلية يجعلنا لا نسوي بينما وبين الرجل في مشاقات الحياة ومشاغلها”.
طبعا شخصيا أعرف جيدا أن ما يقوله من كلام معسول تجاه المرأة يهدف إلى استغفالها وجعلها تقبل بالدوس على كرامتها، ولو كانوا صادقين لما عارضوا كل المحالات لإصلاح قوانين الأحوال الشخصية حول أهلية المرأة في الزواج والطلاق والشهادة والميراث والعمل والتعليم وغير ذلك. بالإضافة إلى هذا فإن التشريع الإسلامي لم يراع أوضاع المرأة هذه عندما أباح للمسلمين الغزاة سبي نساء الغير وتسخيرهن للخدمة في البيوت والحقول وغيرها.
ولكن دعونا نتغابى مع الشيخ ونحكم على عدم أهلية المرأة في هذه الحالات (الحيض والنفاس) لكننا سرعان ما نكتشف أن الشيخ ينطلق من نظرة متخلفة جدا للأسرة عندنا جرّت على مجتمعاتنا الحديثة كوارث بسبب هذا الانفجار السكاني المجنون لأن المرأة جرى إقناعها أن لا مهمة لها سوى الإنجاب كأنثى الحيوان طوال عشرين أو ثلاثين سنة على حساب صحتها وسعادة أسرتها، وأنا أتذكر كيف كانت النساء من أمهاتنا وجداتنا يتحولن إلى عجائز في سن الثلاثين فيتخذ عليهن الرجال ضرائر ينغصن عليهن حياتهن بعد سنين طويلة من الإنجاب والعطاء والأشغال الشاقة. أما تصوره لأسرة حديثة تنجب المرأة فيها طفلا أو طفلين وتتفرع للتفتح على الحياة في أوسع نطاق ولمواصلة العمل والتعلم والتثقف والمشاركة البناءة في حياة البلاد فهو من قبيل المستحيل ولهذا تقضي نساء الطبقات الميسورة اليوم أوقاتهن في استهلاك المسلسلات المبلِّدة والتهافت المبالغ فيه على الزينة، ويأتي الإسلام ليتهمهن بنقصان العقل والدين والبلادة والبلاهة دون أدنى اعتبار للظروف الوحشية المفروضة عليها، وهو ما يقرره الشيخ في هذا الفصل عندما ينفي كون الظروف الاجتماعية المحيطة لها دور في انخفاض مستوى الابتكار عندها.
أتوقف هنا حتى لا أثقل على القارئ الذكي بهذا الفكر المحبط فعلا، وما كنت لأتناوله بالقراءة النقدية لولا ما ألمسه في محيطي وفي عموم بلاد المسلمين وحتى خارجها من تقديس واحترام زائد للرجل وأضرابه وفكرهم بغير حق.