عبد القادر أنيس
أواصل في هذه المقالة الخامسة قراءة كتاب محمد الغزالي (حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة).
تتناول هذه الحلقة فصل: “الحريات” في الإسلام من وجهة نظر الغزالي. (ص 45).
في هذا الفصل يبلغ إسفاف الشيخ وقلة حصافته واستهتاره بالمنطق السليم أوجه. نقرأ له:
“إذا منح الله الإنسان عقلا فلكي يفكر به ويهتدي بنوره، فتلك وظيفة العقل وثمرته المرجوة والله جل شأنه يكره أن يهدر إنسان هذه المنحة فيحيا أحمق وهو يستطيع الرشد، بليدا وهو يستطيع النظر..”
بعد هذا الكلام مباشرة كتب: ” وإذا ذرأ (خلق) الله الناس على فطرة سليمة ينبعثون منها كما ينبعث السهم إلى غايته، فهو يأبى عليهم عوج الطبع وزيغ الخطو وضلال الوجهة..”
ثم كتب: “إن المهندس الذي يبتكر آلة لتدور بمحركات داخلية، لا يعتبر هذه الآلة صحيحة ولا ناجحة إلا إذا دارت وفق ما قدر لها وأدت الغرض المقصود منها..)
هذا هو بؤس العقل المسلم ومحنته. وما يحيرني هو أن يكون لهذا الفكر، أو بالأحرى اللافكر، أتباع من المتعلمين بالملايين، ولكن الطيور على أشكالها تقع.
كيف يستطيع شخص، يزعم أن له عقلا، التوفيق بين هذه القناعات: من جهة “إذا منح الله الإنسان عقلا فلكي يفكر به ويهتدي بنوره…” وهو إقرار بأن الإنسان حر مختار لما يريد، ثم مباشرة يقول: ” وإذا ذرأ الله الناس على فطرة سليمة ينبعثون منها كما ينبعث السهم إلى غايته..”، وفي هذه الحالة فالناس موجهون مثل الروبوتات. وهو ما يعنيه الشيخ أيضا بحديثه عن المهندس الذي هو الله، وعن الإنسان الذي يشبه الآلة التي “تدور بمحركات داخلية”… وفق ما قدر لها وأدت الغرض المقصود منها..”. فكيف يمكن التوفيق بين هذا المصير وبين ” إذا منح الله الإنسان عقلا فلكي يفكر به ويهتدي بنوره”.
فهل يمكن أن تكون للعقل حرية في ظل هذه المصادرات لحريته. ولا يخفى أن الفطرة السليمة هي الإسلام وما عداه انحراف. وهو ما نفهمه من حديث: “مَا مِنْ مَوْلُود إِلَّا يُولَد عَلَى الْفِطْرَة , فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ).
في هذا الفصل تعرض الغزالي لمجموعة من الحريات: الحرية السياسية، الحرية الفكرية، الحرية الدينية، وحول حر ية الارتداد والحرية المدنية.
وسأفرد لكل حرية من هذه الحريات مقالا مستقلا. غير أني أجد نفسي مدينا للقارئ بتنبيهه إلى أنه حتى لفظة الحرية نفسها بمعناها المتعارف عليه اليوم هي حديثة، شاع استخدامها في أدبياتنا الفلسفية والسياسية بعد احتكاكنا بالغرب الحديث، أما معناها القديم فهي تعني حالة يكون فيها المرء حرا وليس عبدا، وهو المعنى المقصود بقول عمر: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.
يقول الغزالي عن الحرية السياسية إنها “تعني في عصرنا هذا أمرين:
– حق كل إنسان في ولاية الوظائف الإدارية صغراها وكبراها مادام، بكفايته، أهلا لتوليها.
– حق كل إنسان أن يبدي رأيه في سير الأمور العامة وتخطئتها أو تصويبها وفق ما يعتقد”.
فما تعنيه الحرية السياسية في الفكر الإسلامي من وجهة نظر الغزالي أولا ومن وجهة نظر الفكر الإسلامي الآخر المُغيَّب في كتابه؟
علينا في البداية أن نفضح عند الغزالي قدرا كبيرا من التحايل في تعريف الحرية السياسية. هو يقول: (حق كل إنسان)، وهو تعميم ضبابي تبناه الشيخ لكي لا يجد نفسه رهين حرج كبير. لقد تفادى استخدام التعبير المناسب وهو (حق كل مواطن) لأن الحرية السياسية هي رديف المواطنة في دولة المواطنين الأحرار. فلماذا لم يفعل؟ هناك، في تقديري، أسباب عدة:
– منها أن الغزالي لا يؤمن بفكرة المواطنة ويستهجنها، وأنا سمعته في التلفزيون الجزائري يلوم الساسة الجزائريين على استعمال تعبير (أيها المواطنون)، بوصفه تعبيرا وافدا مستوردا، ونصحهم باستعمال (أيها المؤمنون) أو (يا أيها الذين آمنوا)، لأن الكلمة غريبة وافدة مستوردة.
– ومنها أن الغزالي لو استخدم مصطلح (مواطن) فسوف يجد نفسه في تناقض صارخ مع خطابه الموجه للمسلمين بلا حدود وطنية يرفضها الإسلاميون حتى أنهم يصرحون أن المسلم الأندونيسي أقرب إليهم من مواطنهم المسيحي مثلا، أو حتى الشيعي.
– ومنها أنه يدري أن في بلداننا، وخاصة بلده مصر، يوجد مواطنون غير مسلمين لا يحق لهم حسب دين الغزالي تولي كل الوظائف العامة.
– ومنها أن فقه الأحكام السلطانية في الإسلام قد وضع قيودا عنصرية لتولي الإمامة أو الخلافة.
ولكي نبين انتقائية وتحايل الشيخ نورد هنا شروط تولي المناصب العليا في الدولة الإسلامية (كما تتفق عليها المصادر الفقهية وأشهرها كتاب الأحكام السلطانية للماوردي باعتباره أشهر منظر سياسي في هذا الباب):
“كان الإمام – أو الخليفة – يتولَّى زمام الدولة الإسلامية بإحدى ثلاث طرق (قلما يعترض عليها الفقهاء المسلمون) (التعاليق ما بين قوسين من عندي):
الطريقة الأولى : الاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد، (وطبعا لا أحد يستطيع أن يبين لنا من هم هؤلاء ومن يؤهلهم ليكونوا من أهل الحل والعقد غير أننا نعرف أن الحاكم وحده هو المخول باختيارهم).
الطريقة الثانية : الخلافة بولاية العهد من الخليفة السابق، وذلك بأن يعهد ولي الأمر بالخلافة لأحدٍ بعينه من بعده، ومثاله : ثبوت الخلافة لعمر بن الخطاب ؛ فإنها ثبتت له بولاية العهد من أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
الطريقة الثالثة : القوة والغلبة، وذلك إذا غلب الخليفة الناسَ بسيفه، وسلطانه، واستتب له الأمر : وجب السمع له والطاعة، وصار إماماً للمسلمين، ومثاله : بعض خلفاء بني أمية، وخلفاء بني العباس، ومن بعدهم، وهي طريقة مخالفة للشرع؛ لأنها أُخذت بالغصب والقوَّة، ولكن لعظَم المصالح المترتبة على وجود حاكم يحكم أمَّته ؛ ولعظم المفاسد المترتبة على نزع الأمن من البلاد : كان للمتولي بالقهر والسيف السمع والطاعة إذا تغلب بهما، وحكم بشرع الله تعالى” .
والشيخ العثيمين يقول :
“لو خرج رجل واستولى على الحكم؛ وجب على الناس أن يَدينوا له، حتى ولو كان قهراً بلا رضىً منهم؛ لأنه استولى على السلطة .ووجه ذلك أنه لو نوزع هذا الذي وصل إلى سُدَّة الحكم لحصل بذلك شرٌّ كثير، وهذا كما جرى في دولة بني أمية، فإن منهم من استولى بالقهر والغلبة وصار خليفةً يُنادَى باسم الخليفة، ويُدان له بالطاعة، امتثالاً لأمر الله عز وجل” .
شروط تولي الخلافة:
1- الحرية، (يعني ألا يكون عبدا مملوكا وهو إقرار واضح بوجد عبيد مسلمين كحالة دائمة ولو كان غير ذلك لما وضع هذا الشرط).
2- الذكورة، (أن يكون رجلا وليس امرأة).
3- البلوغ،
4- سلامة العقل،
5- سلامة الحواس والأعضاء، (ألا يكون به إعاقة ما)
6- العلم بأمور الدين والدنيا.
7- العدالة وتوفرها، سلامة العقيدة وأداء الفرائض. (طبعا العدالة الإسلامية !!)
8- الإسلام وتعظيم شعائره.
9- النسب: أي الانتساب إلى قبيلة قريش.
لجأت إلى هذا الاستطراد لأن الفقه السياسي الإسلامي متهافت جدا إذا ما قورن بالقانون الدستوري اليوناني أو الروماني عكس ما يقرره الغزالي، رغم سبقهما له بأكثر من ألف عام. هذا الفقه يتمحور في مجمله حول منصب الخليفة فقط، أما ما عداه من المناصب السياسية والقضائية والتنفيذية فهي بين يدي الخليفة يديرها ويستبد بها بلا حسيب ولا رقيب لأنه وكيل الله في الأرض وخليفته وهو بهذا ليس مسؤولا إلا أمام الله.
والأدهى والأمر أن الفقهاء المسلمين عموما متفقون على رفض الثورة على الحاكم لأنها فتنة، عملا بالقول المأثور: “ظلم غشوم خير من فتنة تدوم”.
فأين الغزالي من كل هذا؟ نعود إلى كتابه.
هو يضرب بعرض الحائط كل هذا التاريخ الإسلامي الموثق كما طبقه مؤسسوه منذ فجر الإسلام إلى نظام الحكم السعودي الذي كان للشيخ علاقة حميمة به وبجوائزه السخية السنية. يقول: “رئيس الدولة فمَنْ دونه من الموظفين أشخاص تختارهم الأمة، ولا يفرضون عليها أبدا، وتعطيهم نظير ذلك أجرا يقوم بأودهم ويكفل معايشهم وأولادهم… وهم باقون في وظائفهم ومستحقون أجرتها ما بقيت لهم هذه الصلاحية، وإلا نُحُّوا عنها وخلفهم عليها من يقدر على أعبائها”.
هل يصدق الغزالي فعلا هذا الكلام؟ وهل بإمكانه تزويدنا بعدد الخلفاء الذين تمكنت الرعية من خلعهم؟ وهل يستطيع أن يقول لنا من كان يدفع أجرة الخلفاء، ونحن نعرف أن البيعة مرة واحدة كما نعرف أن عثمان قُتِل وهو يتشبث بالسلطة قائلا: “لن أخلع قميصا سَرْبَلَينِه الله !!!” وهو ما يعني أن الحاكم في الإسلام لم يكن يعتبر نفسه مسؤولا أمام الناس الذين بايعوه أو تَأَمَّرَ عليهم بالقوة أو العصبية.
هذا كان حال ما اعتبره المسلمون خلافة راشدة والتي لم تعمر سوى ثلاثين سنة ساد أكثر من نصفها فتن عاصفة وانتهت بأيلولة الحكم إلى ألد أعداء الدولة الإسلامية: بني أمية، ومعهم تواصل الملك العضوض إلى أيام الناس هذه.
أما ما يتشدق به الإسلاميون من شورى وأهل الشورى فهو كلام فارغ لم يعرفه تاريخ الإسلام بالصورة التي نعرفها الآن ضمن انتخابات عامة يحتكم فيها الحكام للشعب بصورة دورية تفرز مجالس محلية ووطنية وفصل بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية.
الحديث عن الشورى هو حديث خرافة. وما أحمق مجالسنا الشورية اليوم و(برلماناتنا) وهي ترفع شعار “وأمرهم شورى بينهم” بينما كل هذه التقنيات في الحكم غربية مائة بالمائة عن موروثنا السياسي والديني. الفقهاء والحكام في تاريخ الإسلام لم يفهموا أبدا هذه الشوري كما يقدمها الغزالي اليوم للاعتراض على النظام الديمقراطي الغربي.
كان الخلفاء هم الكل في الكل وليس في الفقه السياسي الإسلامي ما يلزمهم باللجوء إلى الشورى ولا إلى تنصيب مجالس للشورى، وفي الحالات النادرة التي وجدت فيها، فهي منة من الحاكم، يقوم بنفسه بتعيين أهل الشورى ممن يرضى عنهم ويثق في ولائهم، وفي النهاية فليس في الفقه ما يلزمه بالأخذ بمشورتهم وليس في الفقه الإسلامي أية إشارة للطريقة التي يتم بها اختيار أو انتقاء المستشارين وبالتالي فتسميتهم بأهل الحل والربط خرافة أيضا فهم لا يحلون ولا يربطون شيئا إلا بما يرضي الحاكم ولي نعمتهم. طبعا قد يحتج علينا البعض ببعض الأسماء مثل ابن حنبل أو العز بن عبد السلام وقلة قليلة ممن وقفوا في وجه السلطة، وهي نتف شاذ والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه ويؤيد القاعدة العامة. أما أن يحاول خداعنا بأن خرافة الشورى في تاريخ الإسلام يمكن مقارنتها بالمجالس النيابية العصرية التي يتم انتخاب أعضائها بطريقة حرة وديمقراطية من طرف الشعب وتتولى مهام مراقبة السلطة التنفيذية التي هي أصلا تنبثق عنها حسب نظام الأغلبية فهو من قبيل التحايل والخداع والسذاجة.
هنا لا بد من الإشارة إلى ظاهرة إسلامية في غاية الأهمية، وهي أن رجال الدين شكلوا في الكثير من المرات عبر التاريخ الإسلامي بسبب سيطرتهم على العامة والقدرة على تهييجها قوة متنفذة في الحياة السياسية والفكرية وكان الحكام ولا يزالون حتى اليوم يحسبون لهم ألف حساب، ولهذا يحدث أن يتملقوهم ويظهروا لهم التبجيل والجلوس أمامهم في المناسبات كصلاة العيدين وينزلون عند رغبتهم عندما يتعلق الأمر بقمع الحريات باسم محاربة الزنادقة والهراطقة والفلاسفة وتطبيق الحدود الشرعية في بسائط الأمور مثل الزنا والسرقة في حق بعض المهمشين، ثم يخلو الجو للحكام ورجال الدين ليتحالفوا علينا أو ضمنيا من أجل استقرار الاستبداد والاضطهاد.
يمر الغزالي مر الكرام على مأدبة اللئام بانتقائية وتحايل بفترة “الخلافة الراشدة” المعتبرة في نظره ونظر المسلمين مثالية في نموذج الحكم الراشد. لم يقل لنا إن أبا بكر احتال على مطالبة بعض الأنصار بحقهم في تولي الخلافة بحديث “نحن الأمراء وأنتم الوزراء”، ولم يقل لنا إن عليا ومن ورائه فاطمة، كان يرى نفسه الأحق بها، ورفض المبايعة وحاول الخليفة الجديد إرغامه فبعث إليه من اقتحم داره وأتى به مكبلا واقترح عمر قطع رأسه بسبب هذا الرفض ثم خلوا سبيله (كما جاء في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة)، ولم يبايع إلا بعد موت فاطمة، أي بعد ستة أشهر. أما تولي الخلفاء الثلاثة عمر وعثمان وعلي فقد تمت بطريقة لا تمت بصلة للاختيار الشعبي الحر كما يمارس في الديمقراطية الحديثة كما يوهمنا الغزالي، ولا حتى كما كان يتم في الديمقراطية الأثينية والجمهورية الرومانية على مدى مئات السنين، ولو كان يقتصر على الطبقة الأريستوقراطية ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إنه لم يَرْقَ إلى مستوى الممارسة السياسية (الديمقراطية) كما كانت تمارسها الأريستوقراطية القرشية التي عاش محمد يدعو إلى دينه الجديد في كنفها ثلاث عشر سنة. أما المسلمون فقد عجزوا عن وضع نظام دستوري شبيه، وحتى هذه (الخلافة الراشدة) فإنها لم تعمر كما أسلفنا أكثر من ثلاثين سنة تخللتها الفتن لأن الإسلام، كتابا وسنة، كان يفتقد تماما لأية تنظيم سياسي واضح المعالم كفيل بضمان استقرار نسبي للدولة الفتية وإدارة شؤونها بدون سفك الدماء، ومع ذلك يستميت الإسلاميون مثل سيد قطب والغزالي والقرضاوي وأتباعهم في تشويه التجارب السياسية الحديثة وصد الناس عن الأخذ بها وتكفير وترهيب من اختلف معهم وشكك في جدوى موروثهم السياسي المتهافت والدعوة إلى التخلي عنه، عن طريق عقلنة حياتنا وعلمنة دولنا. هذا ما حدث لفرج فودة الذي أيد الغزالي اغتياله بوصفه أتى منكرا يحق لأي فرد في جماعة المسلمين أن يغيره. فلمن يُسَوِّق الغزالي إذن مزاعمه حول حقوق الإنسان؟
يتبع: الحرية الفكرية…