عبد القادر أنيس
أواصل في هذه المقالة الثالثة قراءة كتاب محمد الغزالي (حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة).
لم أتمكن في المقالة السابقة
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=202515
من إنهاء القراءة حول الحقوق القضائية المثالية الإسلامية كما رآها الشيخ من خلال الأمثلة والحكايات التي استقاها من الموروث السلفي الإسلامي. ولعله لم يقتنع بما سرده علينا من قصص وحكايات عن السلف الصالح وطريقتهم المثلى في فهم وتطبيق الشريعة الإسلامية، فها هو يستنجد بمفكر مسيحي في شخص فارس الخوري (سياسي ومفكر ووطني سوري)، والحق ما شهدت به الأعداء، كما يقول العرب.
ولكي يعطي لشهادة هذا المفكر المسيحي الحجة التي ينتظرها من من هذه الشهادة راح يكيل له التقريظ والمديح بغير حساب، وسواء استحق فارس الخوري ذلك أم لا فإن موقف الغزالي إزاءه سلوك نادر عند الإسلاميين عندما يتعلق الأمر بمفكر غير مسلم، أو حتى مسلم غير منتم إلى مذهبهم.
كتب الغزالي (ص 30): “ويسرنا أن نقرأ شهادة خالصة لوجه الحق كتبها الزعيم العربي المحقق العلامة فارس الخوري ينصف بها هذا الدين. ويصف بها عدالته في الداخل والخارج، ويقارن بين شرائعه والشرائع الأخرى فتظهر المقارنة ما امتاز به الإسلام من سماحة وبر”. ويضيف: “أننا نشعر بسعادة غامرة عندما نرى نصرانيا عربيا صافي النفس والفكر….”
نرجسية المثقف المسلم بادية للعيان هنا. وهي نرجسية نلمسها يوميا في مساجدنا وصحفنا وفضائياتنا عند هؤلاء المشرفين على تشكيل عقول الناس وهم يتحدثون عن شهادة الأعداء على ما حواه (كتابنا العظيم وسنة نبينا الكريم) من علوم باهرة كدليل على صدقهما وربانيتهما وعن دخول بعض الكفار في دين الإسلام وعن الجهود التي تبذل والأموال التي تصرف لنشر الإسلام بينما نشعر نحن بحزن عميق عندما نرى الأمية والفقر والمرض والبؤس والآفات الاجتماعية تفتك بمئات الملايين من المسلمين ولا ينتبه إليهم هؤلاء المشايخ ماداموا مضموني الولاء والتبعية.
اقتبس الشيخ الغزالي فقرات طويلة من كلام فارس الخوري التي ينتصر فيها للإسلام على اليهودية. مثل:
“وشريعة موسى تحتوي أظهر الأمثلة بين الشرائع الإلهية للشدة، فهي مبنية على القتل العام ومحو سكان البلاد المفتوحة… والبون شاسع بين شريعة موسى ومحمد عليهما السلام… فالأولى تأمر بالتقتيل بدون إنذار ولا عهد ولا صلح ولا دعوة لإيمان… والشريعة الثانية تأمر بدعوتهم إلى الإسلام، فإن قبلوا الدعوة عصموا دماءهم وأعراضهم وأموالهم… وإن أبوا فالجزية، وإن أبوا فالقتال، وهذه دعوة دينية قبل كل شيء”.
دعونا نفكك هذا الكلام المستفز لعقولنا والذي ينخدع به الكثير من المؤمنين. هل شريعة موسى وحدها أظهر للشدة وهل هي وحدها المبنية على القتل العام؟ هل يجهل الغزالي عشرات الآيات القرآنية التي شرعت للجهاد والغزو والسبي والاحتلال باسم الفتح وباسم أسلم تسلم؟ ثم ماذا نفهم من (وإن أبوا فالقتال؟) أليس من حق الشعوب المغزوة أن ترفض الغزو وتقاومه؟ فهل من حق المسلمين أن يفرضوا عليها هذه الخيارات التي أحلاها مرارة وشر وإذلال ومهانة؟ ثم ماذا نفهم من آيات مثل:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة: 216
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة البقر: 244
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} سورة النساء: 74
الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} سورة النساء: 76
وهذا غيض من فيض من آيات الجهاد والقتال والنفير، أما الأحاديث النبوية حولها فهي أكثر. والمرويات الإسلامية التي تحدثنا عن الغزو والسبي واحتلال البلدان باسم الفتح كثيرة تواصلت طوال تاريخ الإسلام.
المدهش في فكر الغزالي أنه لم يلاحظ هذا التوافق بين النصوص الموسوية والمحمدية، مع أن المسلمين كانوا أكثر تطبيقا لنصوصهم مقارنة باليهود الذين لم يكن يعنيهم تهويد الناس.
وعندما يقول فارس الخوري ويفرح لقوله الشيخ الغزالي: (والشريعة الثانية تأمر بدعوتهم إلى الإسلام، فإن قبلوا الدعوة عصموا دماءهم وأعراضهم وأموالهم… وإن أبوا فالجزية، وإن أبوا فالقتال، وهذه دعوة دينية قبل كل شيء”). فهل يقبل عاقل اليوم وهو يتحدث عن حقوق الإنسان، هذا الكلام؟ أية دعوة دينية هذه التي تعطي الحق لمعتنقيها أن يخيروا الناس بين هذه الخيارات الوحشية ضد بشر آخرين لا ذنب لهم إلا أنهم يعتنقون أديانا مختلفة؟
ويقول فارس الخوري حسب اقتباس الغزالي: “قال موسى عليه السلام: كل ما كان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم من البرية إلى لبنان، من نهر الفرات إلى البحر الغربي يكون تخمكم”… وهذا أيضا خالفته بها الشريعة الإسلامية السمحاء فتركت الأرض لسكانها وفرضت عليها خراجا كما فرضت الجزية على السكان لتمويل المحاربين في الجيش مقابل إقرار الأمن وإقامة العدل وحماية البلاد.. وهذا عين ما تفعله كل سلطة عادلة حتى هذه الأيام..) !!!!!!!!
هل يصح مع هذا التحدث عن العدل وحماية البلاد وحوار الأديان والحضارات؟ ومن خوّل الغزاة العرب الحق في فرض حمايتهم على الناس؟ ثم ممن تحمى البلاد إذا كان حاميها حراميها؟ وهل قرأ كلاهما ما نُقل عن عمر بن الخطاب في إحدى خطبه: ألا بعون الله مع الإيمان بالله ورسوله، فأنتم مستخلفون في الأرض، قاهرون لأهلها، نصر الله دينكم، فلم تصبح أمة مخالفة لدينكم إلا أمتان، أمة مستعبدة للإسلام وأهله، يجزون لكم، يُستصفون معايشهم وكدائحهم ورشح جباهم، عليهم المؤونة ولكم المنفعة، وأمة تنتظر وقائع الله وسطواته في كل يوم وليلة، قد ملأ الله قلوبهم رعبا، فليس لهم معقل يلجؤون إليه، ولا مهرب يتقون به).
ومع ذلك فعمر عند الغزالي: (كان رافدا من روافد الرحمة العامة التي بعث بها نبي الرحمة) !!!
وينهي الغزالي اقتباسه من فارس الخوري بقوله: “إن هذا البحث صادق في جملته وتفصيله ولكنا نريد أن نبين آثاره في تفكير الغرب المعاصر وتشريعه، خصوصا وهو يعامل الآخرين. إن خلو النصرانية من الجانب التشريعي في الدماء والأموال وسائر المعاملات معروف، فهي عقيدة فقط. ورسالة عيسى في حقيقتها تصديق للتوراة وتكميل لها. ولا يزال النصارى يرون العهد القديم والجديد جزءين لشيء واحد هو الكتاب المقدس) وهو كلام فيه طعن من الخلف لحصافة وذكاء فارس الخوري، الذي كان قبل قليل أستاذا كبيرا وعلامة عربيا صافي الذهن والفكر، ثم تحول بقدرة قادر إلى شخص لا يفرق بين الديانة الموسوية الصحيحة والمحرفة ولا يعرف أن المسيحية تتبنى كتب العهد القديم والجديد معا.
ويخرج الشيخ باستنتاج: (والمشكلة التي لا حل لها أبدا هي أن العهد القديم الذي بين أيدي اليهود والذي يمثل شريعة موسى شيء واهن الصلة بالوحي… وهذا المنحى الزائغ ترك طابعه في سياسة أوربا وأمريكا… فالشعوب والحكومات هناك واقعة في دائرة النفوذ الأدبي والاقتصادي والسياسي لليهود… بيد أن مقدسات اليهود الفكرية والقانونية- وقد عرفنا قيمتها- هي التي تسيطر على الغرب وحضارته. الدار الآخرة لا اكتراث بها ولا التفات إليها.. الحلال والحرام –كما خطته السماء- لا تعويل عليه في تشريع أو نظام)
هكذا إذن هو الغرب في فكر الشيخ. هذا الغرب الذي أنتج الحداثة والعلمانية والديمقراطية، هذا الغرب الذي أنتج الثورة الصناعية الجبارة والثورة المعلوماتية المعجزة، وأنتج الدولة الحديثة على أنقاض الدولة الإقطاعية الثيوقراطية، دولة المواطنة والمساواة أمام القانون، ووضع حقوق الإنسان وحرر المرأة وأتاح للناس حريات التعبير والرأي والاعتقاد والصحافة والاجتماع والتنظيم الحزبي والنقابي، هذا الغرب الذي خاض أحراره نضالات مريرة من أجل الحرية السياسية والدينية والفكرية التي فاضت على العالم… لا يرى فيه شيخنا إلا المساوئ.
طبعا من حق الشيخ أن يكنّ لهذا الغرب كل هذا الجحود، لأنه يجهله، والناس أعداء ما جهلوا كما جاء في الأثر. ولا يقل جحود الشيخ على الغرب عن جحوده تجاه المفكرين العرب والمسلمين المتأثرين بفكر الغرب وهو يكتب: “والمستغرب أن يجيء نفر قاصر من سكان هذه البلاد فيرنو ببصره إلى شرائع الغرب يحسبها شيئا طائلا ويذهل عن كنوز الحق المبعثرة بين يديه عن يمين وشمال)!!!!
يتبع