د/ نصر حامد أبو زيد
سيقول لنا فلاسفة الفكر الإسلامي إن أوروبا احتاجت الإصلاح الديني بسبب “الكنيسة”، المرض الذي لا وجود له في حضارتنا. وهنا بالضبط يكمن الخطأ، فلدينا كنائس لا كنيسة واحدة، إذا كان معنى الكنيسة وجود سلطة، أو سلطات، تحتكر المعنى الديني، وتكفر كل من يخالف هذا المعنى. لدينا وفرة وافرة من هذه السلطات، التي تحتكر، إلى جانب المعنى الديني، المعنى الاجتماعي، والمعنى الثقافي، والمعني السياسي، بالإضافة إلى المعاني الأخلاقية والروحية، وكلها معان يتم احتواؤها داخل المعنى الديني، الذي تنتجه هذا السلطات.
مشكلة الخطاب الديني أنه يلعب على أوتار “الخصوصية”، وكأننا بدع بين البشر، ما أصلح العالم لا يصلح لنا، دون أن يدقق المخدوعون بمفهوم “الخصوصية”، المطروح في الخطاب الديني ليدركوا أنها خصوصية فقيرة جدا ومغلقة؛ لأنها تختصر هوية الإنسان في بعد واحد من الأبعاد العديدة، وهو بعد “الدين”.
ليست المشكلة أن هناك جماعات تحتكر الإسلام، وتنسب نفسها – وحدها – إليه. هذه إحدى تجليات المشكلة وليست كل تجلياتها. لو كان الأمر مجرد انضمام لجماعة، تزعم أنها “إسلامية” على سبيل الاحتكار لهان الأمر، خاصة إذا كان المجتمع، خارج الجماعة، واعيا بأنها مجرد جماعة. بداية المشكلة كانت في مصر 1928، حيث نشأت “جماعة الإخوان المسلمين”، وجدت “جماعة أنصار السنة المحمدية”، وجماعات وتجمعات كثيرة لها أسماء أخري، ولم تكن الدولة تتبنى زعم أي واحدة من هذه الجماعات. كانت هذه إرهاصات “المجتمع المدني” في مصر شبه الليبرالية، حيث تحمي الدولة حق الناس في التجمع وتنظيم تجمعاتهم في شكل قانوني، سواء في شكل نادي، أو نقابة، أو حزب، أو جمعية خيرية، أو دينية: إسلامية أو مسيحية أو يهودية.
الكارثة الآن أن الدولة، بنظامها السياسي الديكتاتوري القمعي، تتبنى نفس النهج؛ فتزعم أنها دولة إسلامية، وتحرص في صياغة قوانينها على الحصول على موافقة المؤسسة الدينية. بل وتتبنى في نظامها الاقتصادي مفاهيم “الاقتصاد الإسلامي”، الذي يحتل ركنا خاصا داخل كل البنوك. وصار هناك الزي الإسلامي، والشعار الإسلامي، والبرامج الإسلامية، في الإذاعة والتليفزيون، وصار بعض الناس يحملون لقب “المفكر الإسلامي”. الخطر هنا في هذه الأسلمة، التي لا هدف ورائها سوى سحب بساط احتكار الإسلام من تحت أقدام المعارضة. يمكن القول باختصار أن النظام السياسي يسجن نفسه في خندق المعارضة الإسلامية، وهو يظن انه يحاربها. لقد انتصرت بأسلمة المجتمع والدولة، دون الوصول إلى السلطة. وهذا يفسر حالة التراوح في تقديم برنامج سياسي لخوض الانتخابات من جانب المعارضات الإسلامية. إن شعار “الإسلام هو الحل” كاف ما دام النظام السياسي يحول الشعار إلى سياسة.
المعضلة، في هذا الوضع، ليست فقط معضلة المسلم الذي لا يريد أن ينتمي لهذه الأسلمة الإكراهية، بل المعضلة الأكثر تعقيدا معضلة غير المسلم الذي يعيش بالإكراه والإرهاب بقوة القانون المتأسلم في مجتمع، لا يأبه به، ولا يعير دينه أي قيمة، إلا بطرف اللسان والبلاغة اللفظية. وضع المرأة أنكى وأنكي، ووضع الفكر والمفكرين، والإبداع والمبدعين لا يحتاج لمزيد من الإيضاح.
إنها “العلمانية” – التي تفصل بين الدولة ونظامها السياسي وبين الدين – هي وحدها التي يمكن أن تفتح آفاقا للحرية والعقلانية وتعدد المعاني. الدين شأن المتدينين، ومهمة الدولة أن تضمن حرية الجميع، وتحمي البعض من البغي على البعض باسم الدين أو باسم هذا المعنى أو ذاك لدين بعينه. لكن العلمانية لا يمكن أن تتأسس دون الإصلاح الديني، إصلاح لم يتحقق بعد عندنا، بل تحقق في أوروبا القرن السادس عشر. لم تحدث عندنا ثورة فلسفية كالتي أحدثها فلاسفة أوروبا، تلك الثورة التي على أساسها تحققت الثورة الاجتماعية والسياسية التي أرست مفهوم “المواطن”، وأحلته محل مفهوم “الرعية”، المفهوم الحاكم في مجتمعاتنا، رغم بلاغة الدساتير في تأكيد “المواطنة”. بعد تحرر الإنسان من نير الطغيان السياسي، ونير التصور الكنسي للعالم، بفضل كل ما سبق – الإصلاح الديني وثورة الفكر الفلسفي والعلمانية – تحققت الثورة العلمية.
كل شيئ ولد في مجتمعاتنا مختنقا، بسبب أن “الحداثة” الوافدة تم تمزيقها أشلاء في الوعي التحديثي – ولا أقول الحداثي – فتم تقبل الشلو التقني فقط، وتم رفض الأساس العلمي للتقنية، بكل مكوناته من عقلانية وعلمانية … الخ. تم تقبل الديمقراطية، بدون أساسها وهو حرية الفرد، تم تقبل الاقتصاد الحر، بدون أساسه من حرية الفكر. لم يحدث الفصل بين السلطات، ولا كان ممكنا أن يحدث، لارتباط مفهوم السلطة بمفاهيم قروسطية مثل “الراعي” و”الحامي” و “الزعيم الملهم” و”الرئيس المؤمن” و “أمير المؤمنين”
هناك الآن أهمية قصوى لفصل الدين عن الدولة، إذا نظرت حولك ستجد النتائج المأساوية لهذا الزواج الكاثوليكي المحرم بين الدولة والدين في عالمنا العربي. الدين لا تستخدمه الجماعات الراديكالية أو الإسلاميون فقط، إنما تستخدمه الدولة، وهذا أمر يعود تاريخه إلى النصف الثاني من القرن العشرين، في العالم العربي كله والعالم الإسلامي كله.
فصل الدين عن الدولة غير فصل الدين عن المجتمع، لا يستطيع أحد أن يفصل الدين عن المجتمع، الدين تاريخيا مكون اجتماعي، وليس مجرد مكون شخصي أو فردي. قد يبدأ الدين كذلك، أي يبدأ تجربة شخصية فردية، وقد يظل كذلك في بعض التجارب. لكن بعض التجارب الدينية الشخصية الفردية يتم تحويلها إلى تجربة مشتركة تخلق جماعة، تصبح مجتمعا ثم تتطور إلى “أمة”. في هذه الحالة الأخيرة يصبح الدين قوة وشيئا لا يمكن انتزاعه من المجتمع.
الدولة ليست المجتمع، بل هي الجهاز الإداري والسياسي والقانوني الذي ينظم الحياة داخل المجتمع. وإذا كان الدين قوة اجتماعية، فهو أيضا ليس المجتمع؛ إذا المجتمع جماعات وأديان. ومن حق هذه المجتمعات على الدولة أن تحمي بعض الجماعات من الافتئات على حق الجماعات الأخري. من هنا فدور الدولة كجهاز منظم لسير الحياة في المجتمع – المتعدد الأديان بطبيعته – يجب أن يكون محايدا، بأن لا يكون للدولة دين تتبناه وتدافع عنه وتحمية. إن دورها حماية الناس، لا حماية العقائد.
لم يحدث في التاريخ كله – رغم كل الادعاءات والأوهام – مثل هذا الفصل بين الدين والمجتمعات. الدولة ليس لها دين، ولا يصح أن يكون لها دين. “دين الدولة الإسلام”، عبارة يجب أن تكون مضحكة؛ فالدولة لا تذهب إلى الجامع ولا تصلي، والدولة لا تذهب إلى الحج، ولا تصوم، ولا تدفع الزكاة. الدولة ممثلة في النظام السياسي مسؤولة عن المجتمع بكل أطيافه بما فيها الأديان. معظم الدول العربية والإسلامية موزاييك من الأديان. وهذا يعني أن الدولة التي لها دين تلغي حقوق المواطنين الذين لا ينتمون لهذالدين، بل الأدهى من ذلك أن هذه الدولة تضطهد أبناء نفس الدين الذين يفهمون الدين بشكل يختلف عن المؤسسات الرسمية للدولة. هكذا تصبح مفاهيم مثل “المواطنة” و”المساواة” و”القانون” مفاهيم خاوية المعنى.
الحاجة الثانية: هي الدساتير، من العبث القول أن المواطنة هي أساس الانتماء، ويقال في نفس الدستور “الشريعة – أو مبادئ الشريعة – هي المصدر الرئيسي للتشريع”، هذا تناقض حدّي جدا بين مادتين في الدستور تلغي إحداهما الأخرى. يزداد الأمر تناقضا حين يحرِّم نفس الدستور في مادة أخرى قيام أحزاب على أساس ديني، لا اله إلا الله!!
الحزب الديني يقول نفس الكلام (الدستوري)، يقول “الإسلام دين الدولة والشريعة هي مصدر التشريع”، كيف تحرم قيام حزب يتبنى نفس القيم الدستورية التي يتبناها، ويدافع عنها بضراوة، الحزب الوطني الحاكم في مصر. إما أن الدستور “لعب عيال” أو أن الحزب الوطني حزب غير شرعي مثل الجماعة غير الشرعية إياها.
ماذا يعني أن يكون للدولة دين؟ وماذا يعني أن يتنازع المتنازعان – الحزب الوطني والجماعة “غير الشرعية” – على أحقية الحكم على أساس مرجعية “الشريعة”؟ هذا يعني ببساطة تهميش غير المسلمين في المجتمع، وانظر حولك وتأمل حال الأقباط والبهائيين في مصر، وما حدث لغالبية الأقباط من اعتبار “الكنيسة” وطنهم. حدث أيضا باسم الشريعة تهميش دور المرأة في المؤسسات السياسية والتعليمية والإعلامية. لا يصرخن أحد في وجهي بأن ذلك غير صحيح، فأنا أعلم أن ثمة ديكورات للتجمل في عالم تضغط فيه المنظمات العالمية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة على الأنظمة والأحزاب السياسية. الذي يعانيه المواطن المسلم غير المتفق مع الدولة في تفسيرها وتفسير مؤسساتها للدين أنكى وأمر؛ فهناك الاتهامات الجاهزة بالردة والخروج على الثوابت، وهناك المطارادات البوليسية بالاعتقال، بل وصل الأمر مع من يسمون أنفسهم “القرآنيين” أو “أهل القرآن” باضطهاد أهلهم وذويهم. كل هذا يجعل من ادعاء “عدم وجود كنيسة في الإسلام” محض بلاغة لفظية فارغة من المعنى؛ فالكنيسة لم تفعل بمخالفيها في العصور الوسطى أكثر من ذلك.
في العقد الحالي – العقد الأول من القرن الواحد العشرين والذي يوشك على النهاية – صارت الدولة أكثر راديكالية في تحديد دينها وفي ملاحقة خصومها، وأن لم تنص على ذلك في دساتير أو قوانين. صارت الدولة ذات الأغلبية السنية تضطهد الشيعة، والعكس صحيح، وتزايد الاحتقان بفعل الخطابات الإعلامية غير المسئولة، فتم تصنيف البشر داخل الدين الواحد إلى طوائف تكفر كل منها الأخرى. العراق حالة محزنة بحكم تاريخه الطويل في العيش المشترك والتزاوج والمشاركة الكاملة في الوطن. في لبنان – هايد بارك العرب – صار التأزم الطائفي بينا في الواجهة السياسية. كل هذا يرشح حلا وحيدا: أن تتخلى الدولة عن امتلاك الدين. الدولة لا دين لها. تحكي قصة لجنة إعداد دستور 1923 في مصر أن أعضاء اللجنة ترددوا في مسألة هذه المادة التي تنص أن “دين الدولة الإسلام”، هل هي ضرورية أم يمكن الاستغناء عنها. والغريب في القصة أن أعضاء اللجنة الأقباط عبروا بوضوح عن رأيهم بأنه “لا ضرر” من النص على ذلك في الدستور. وقد كان، علق طه حسين فيما بعد “وقد وجدنا فيها الضرر كل الضرر”. المعنى هنا أن التجربة كشفت عن ضررها. وفي تقديري أن أعضاء اللجنة الأقباط مغمورين بمناخ شعارات ثورة 1919 “الدين لله والوطن للجميع” أرادوا أن يعبروا لأخوانهم المسلمين عن ثقتهم وفخرهم بالانتماء للفضاء الثقافي العربي الإسلامي. أما وقد ظهر الضرر، فعلى المسلمين أن يردوا الدين ويسترجعوا ثقة أخوانهم الأقباط بإلغاء هذه المادة من الدستور، فهل هم فاعلون؟!