الفرص محدودة أمام قيام منطقة آمنة في سورية

يزيد صايغ باحث رئيسي مركز كارنيغي للشرق الأوسط

يزيد صايغ باحث رئيسي مركز كارنيغي للشرق الأوسط

يزيد صايغ

ملخّص

إن تكثيف العمل العسكري التركي ضد “حزب العمال الكردستاني” وتنظيم “داعش” لا يترجم إلى إنشاء منطقة آمنة في سورية.

أثارت التقارير الصحافية التي تقول إن الولايات المتحدة وتركيا وافقتا أخيراً على إنشاء منطقة “أمر واقع” آمنة في سورية، يمكن للنازحين السوريين فيها الحصول على المساعدة الإنسانية والحماية من هجمات نظام الرئيس بشار الأسد، اهتماماً له ما يبرّره. غير أن إلقاء نظرة فاحصة على تفاصيل ما يفترض أنه يجري اقتراحه يشير إلى ما هو أقلّ بكثير من منطقة آمنة يمكن أن يتم فيها تجميع عدد كبير من السكان المشردين واللاجئين العائدين من تركيا، كما تشير بعض المصادر غير الرسمية.

يتمحور الاتفاق المفترض على افتراضين، أولهما أنه سيتم طرد تنظيم “الدولة الإسلامية” من منطقة مساحتها حوالى 7 آلاف كيلومتر مربع من دون تدخّل مباشر من قبل القوات البرية التركية أو القوات غير السورية، و ثانيهما أنه يمكن بعد ذلك لمسلَّحي المعارضة السوريين توفير حماية كافية للمنطقة الآمنة التي يحميها غطاء جوي تركي وربما أميركي. هذان الافتراضان موضع شك، إن لم يكونا خاطئين تماماً، كما أن الإيحاء بأن المنطقة الآمنة سوف تظهر “في شكل طبيعي”، أي تلقائياً، مضلّل. وما لا يقلّ عن ذلك إشكاليّةً هو الحقيقة الضمنية أن المنطقة الآمنة لن تشمل أهم تجمعات النازحين والمراكز السكانية الكبيرة في محافظتي حلب وإدلب التي هي الأكثر عرضة لهجمات النظام.

يزيد صايغ باحث رئيسي في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث يتركّز عمله على الأزمة السورية، والدور السياسي للجيوش العربية، وتحوّل قطاع الأمن في المراحل الانتقالية العربية، إضافة إلى إعادة إنتاج السلطوية، والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وعملية السلام.
ما يكشفه التفاهم الأميركي- التركي هو أن تركيا تخلّت عن مطلبها الدائم منذ أكثر من سنة بإنشاء منطقة آمنة في سورية. ويأتي ذلك حتى في الوقت الذي تصعّد فيه الحكومة التركية ضرباتها العسكرية وحملاتها الأمنية ضدّ “حزب العمال الكردستاني” وتنظيم “داعش”، وتتّخذ التدابير الدفاعية الأخرى على طول حدودها مع سورية. استدارة تركيا هذه تقرّبها أكثر من الولايات المتحدة، التي دأبت على مقاومة الضغوط التركية للالتزام بإنشاء منطقة آمنة، والتي لن تخصّص، وفقاً لآخر المعلومات، الأراضي التي يتم تطهيرها من تنظيم “داعش” كمنطقة محمية، ما يعني تفادي أي التزام رسمي أميركي بإقامة ملاذٍ آمن للمدينيين.

على مدى أكثر من عام، قاومت تركيا الدعوات التي قادتها الولايات المتحدة للانضمام إلى الحملة العسكرية ضد تنظيم “داعش”، من خلال الإصرار على أن يتعهد التحالف ضد هذا التنظيم باتّخاذ إجراءات موازية ضد نظام الأسد. وأصبح المطلب التركي بإقامة منطقة حدودية آمنة داخل سورية محور المفاوضات مع الولايات المتحدة في شأن الانضمام إلى الحملة المناهضة لـ “داعش” وكذلك استضافة برنامج أميركي موسّع لتدريب مسلَّحي المعارضة السوريين في تركيا. مع ذلك، وعلى رغم خطاب تركيا العلني الحادّ، فليس من المؤكّد بأي حال أنها كانت تنظر إلى المنطقة الآمنة باعتبارها فكرة واقعية في أي وقت مضى. ذلك أن لجوءها الى معاهدة حلف شمال الأطلسي (ناتو) لتأمين نشر بطاريات “باتريوت” للدفاع الجوي على حدودها مع سورية في كانون الثاني (يناير) 2013 قيَّد فعلياً قدرة القوات المسلحة التركية على العمل عبر الحدود، لأن القيام بذلك تحت غطاء “الناتو” المخصّص لأغراض دفاعية بحتة من شأنه أن يورّط الحلف ويثير ردّ فعل روسياً قوياً.

تشير التحركات التركية الأخيرة إلى منطق مماثل، لأن تأثيرها الرئيس يتمثّل في تعزيز الدفاعات وتحسين أمن الحدود مع سورية، بدلاً من الاستعداد لعمل هجومي أو مدّ المظلة الواقية اللازمة لتأمين منطقة آمنة داخل سورية. ومن الجدير بالذكر أن الحكومة التركية تقترب من الموافقة على إقامة “نظام أمن فعلي” جديد للحدود السورية، يضم جداراً خرسانياً وأبراج مراقبة ووحدات مراقبة أرضية وجوية على طول الحدود المشتركة البالغة 911 كيلومتراً. كما أن طلب تركيا يوم 26 تموز (يوليو) الماضي، عقد اجتماع لحلفائها في “الناتو” على أساس المادة 4 من المعاهدة المشتركة، والتي تستلزم الدفاع الجماعي في حال تعرّض سلامة أراضي أو أمن أي من الدول الأعضاء للتهديد، يحول مرة أخرى دون القيام بإجراءات من جانب واحد خارج ما سماه الأمين العام للحلف الجنرال ينس شتولتنبيرغ “حدود حلف الناتو في تركيا”.

تمت الإشارة بوضوح إلى أن إقامة منطقة آمنة لم تعد على الأجندة التركية، على خلاف ما يشبه الحملة الدعائية، يوم 25 تموز، عندما أشار وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو إلى أن مناطق شمال سورية التي يتم تطهيرها من مقاتلي تنظيم “داعش” ستصبح مناطق آمنة “طبيعية”، “يمكن وضع” النازحين السوريين فيها. لم تكن هناك إشارة إلى دور تركي مباشر في إقامة هذه المناطق، أو توسيع نطاق الحماية العسكرية عبر الحدود من أجل الحفاظ عليها عقب إنشائها بأي وسيلة كانت. بل الواقع أن السلطات التركية تعمّدت التأكيد أن طائراتها التي هاجمت موقعاً حدودياً تابعاً لتنظيم “داعش” يوم 24 تموز انتقاماً لمقتل جندي تركي لم تدخل المجال الجوي السوري لتنفيذ الهجوم.

من شبه المؤكّد أن تركيا ستقوم بعمليات عسكرية أخرى عبر الحدود ضد أهداف تنظيم “داعش” و”حزب العمال الكردستاني”، كما فعلت في شمال العراق في 27 تموز. يأتي ذلك على خلفية تحذيرات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ 26 حزيران (يونيو) الماضي، عندما صرّح “إننا لن نسمح أبداً بإقامة دولة (كردية) جديدة على حدودنا الجنوبية في شمال سورية”. وتتحدّث وسائل الإعلام المحلية عن حشد القوات التركية لإنشاء “منطقة أمنية” معادية لتنظيم “داعش” في سورية، فيما يتحدّث كبار المسؤولين عن الانتقال من الدفاع “السلبي” إلى الدفاع “النشط” ضد التهديدات المحسوسة، وبخاصة من جانب “حزب العمال الكردستاني” و”حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي” السوري المتحالف معه.

ان تكثيف العمل العسكري التركي ضد “حزب العمال الكردستاني” وتنظيم “داعش” (وربما “حزب الاتحاد الديموقراطي”) لا يترجم إلى إنشاء منطقة آمنة في سورية، على رغم الإيحاء الواضح بأنها ستقوم بذلك فعلاً. على العكس تماماً، فإن احتمال الانجرار إلى صراع نشط مع كل من تنظيم “داعش” والأكراد، اللذين يشكّل كل منهما تحدّياً لأمن تركيا الداخلي فضلاً عن التحدّي الذي يشكّلانه عبر الحدود، يعقّد الخيارات التركية للسعي لإنشاء منطقة آمنة حقيقية. وعلاوة على ذلك فإن كل هذا يحدث في سياق عدم اليقين السياسي العميق في تركيا، فصعوبة تشكيل حكومة ائتلافية قد تستوجب إجراء انتخابات مبكّرة، ما يعيق تنفيذ التزامات عسكرية كبيرة في البلدان المجاورة يحتمل أن تكون معقّدة وطويلة الأجل.

وحتى لو تولّت القوات البرية التركية دوراً مباشراً في إنشاء”منطقة أمنية” ضد تنظيم “داعش” في سورية، في نهاية المطاف، فذلك لن يوفّر الحماية الكافية لغالبية السوريين الذين يعيشون في المناطق الأخرى التي يستهدفها النظام يومياً. كما أنها لا تعالج التحدّيات العملية الكثيرة التي يجب حلها من أجل إقامة ملاذ قادر على اجتذاب النازحين من أنحاء أخرى من سورية، بما فيها نظرياً المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، ناهيك عن اللاجئين الذين يقيمون الآن في تركيا.

الاستدارة باتجاه منطقة آمنة “بحكم الأمر الواقع” تحجب الأسئلة الصعبة التي ينبغي الإجابة عنها من أجل إقامة منطقة آمنة حقيقية في المناطق الأكثر كثافة سكانية في شمال غربي سورية (أو على الحدود الجنوبية مع الأردن). فهل سيُسمح للمناطق الآمنة الخاضعة للحماية الأجنبية بأن تصبح ملاذات آمنة لمسلّحي المعارضة السورية؟ وإذا لم يسمح لهم بذلك، من هي الجهة التي ستتولّى عملية ضبط هذا الأمر؟ وكيف ستتم إدارة المناطق الآمنة بوسائل تتوافق مع إصرار الولايات المتحدة على عدم السماح لـ “جبهة النصرة” بالاستفادة من الدعم الخارجي المقدّم للجماعات الأخرى؟ وما هي أرجحيّة أن تتحمّل المعارضة السورية والهياكل الإدارية المحلية العبء الرئيس لتنسيق المساعدة الدولية على الأرض ووضع نظم فعّالة للحوكمة وحفظ النظام وتسوية النزاعات بدلاً من الجماعات المسلّحة المختلفة التي تقوم حالياً بمعظم هذه المهمات؟

على رغم الاهتمام الكبير الذي حظيت به فكرة المنطقة الآمنة بفضل التأييد التركي الرسمي خلال العام الماضي، لم يجر سوى القليل من النقاش العام في شأن هذه المتطلبات والأسئلة العملية الأخرى. وكانت الولايات المتحدة، وكذلك تركيا على رغم خطابها الذي يشي بعكس ذلك، تدركان تلك المتطلّبات على الدوام على الأرجح، ما يفسّر مأساة ضآلة احتمالات إقامة منطقة آمنة منذ اللحظة الأولى. أما المنطقة الآمنة “الطبيعية” التي يبدو أن الولايات المتحدة وتركيا تتبنّيانها الآن فليست سوى نموذج رخيص، أو منطقة آمنة “لايت”.

تم نشر هذا المقال في جريدة الحياة.

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.