جورج كدر – كاتب وباحث وإعلامي من سوريا
اختلف السلف في من كان وراء تسمية الخليفة عمر ابن الخطاب بـ”الفاروق”، فقال بعضهم: سماه بذلك رسول (ص). وقال بعضهم: أول من سماه بهذا الاسم أهل الكتاب. هذا ما نقرأه في “تاريخ الطبري” (طبعة بيت الأفكار الدولية ص 704) حول أسباب تسمية الخليفة عمر بـ”الفاروق”، لا بل إن الطبري يزيد بنقله رواية تقول: “إن أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر: الفاروق؛ وكان المسلمون يأثرون ذلك من قولهم؛ ولم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر من ذلك شيئًا”.
الفاروق كلمة نجد جذرها في اللغة الآرامية التي انبثقت عنها ابنتها السريانية، وحفيدتها العربية فيما بعد
يمكننا أن نزيل الحيرة عن الطبري في حسم الجدل حول أصل ذلك اللقب الذي أطلق على الخليفة، بالغوص في تاريخ هذه الكلمة التي نجد جذرها في اللغة الآرامية الأم التي انبثقت عنها ابنتها السريانية وحفيدتها العربية فيما بعد، فقد جاء في “كتاب نقوش تيماء الآرامية”، ص 157، وهي نقوش اكتشفت في محافظة تيماء شمال غرب السعودية، وتعود للقرن التاسع والسابع والسادس قبل الميلاد، نقش لشخص يدعى تيم بن إله الذي “ف ر ق ـ م ن ـ ت ـ ب ر ـ و ع ن… أي “الذي نجى من مرض عضال”.
في كتاب “معجم المفرادات الآرامية القديمة”: “ورد شرح “فرق” بمعنى “نجى، أنقذ، خلص”، وهذا المعنى حافظت عليه اللغة السريانية واللغة السبيئة التي تعني فيها الكلمة “نجى، حفظ”. أما في اللغة الأوجاريتية، وعبرية العهد القديم، وآراميته، واللهجتين الآراميتين الفلسطينية اليهودية، فتعني كلمة فرق “مزق، سحق، فصل (بين شيئن)”، وهو ذات المعنى في المعاجم العربية. فكلمة فرق هي عكس “جمع”، ويأتي معنى “الفاروق فيها: هو التفريق بين شيئن متناقضين (الليل والنهار، الحق والباطل ..إلخ)، وحتى في اللغة الأكادية: جاء معنى كلمة فراقو بمعنى “يفصل، يشق” (ص 228 كتاب اللسان الآكادي ـ الهيئة العامة السورية للكتاب 2012).
ولكن كل المعاني الواردة في المعاجم العربية لا تفي الكلمة حقها بكونها لقبًا صار مرادفًا لاسم الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، وهو ذات اللقب الذي أطلقه المسيحيون السريان على المسيح، وهو ما يمكن أن تشرحه لنا اللغة الأقدم من العربية، ونعني بها اللغة السريانية، فقد جاء في قاموس “الألفاظ السريانية في المعاجم العربية” الذي وضعه البطريرك مار أغناطيوس أفرام برصوم الأول ونشر في مجلة المجمع العلمي العربي، مجمع اللغة العربية لاحقًا، عام 1948 ـ المجلد 23 الجزء الثاني، ص 338- 339: الفاروق: كلمة سريانية فوروقو
forouqo
هي اسم فاعل من فعل
fraq
فراق، ويعني: فرق، فصل، خلّص ونجى، وبهذا المعنى جاء الفاروق في عرفنا (كما يقول البطريرك أفرام وهو يقصد المخلص يسوع المسيح المخلص والمنقد كما في الدين المسيحي)، أما فعل فرّق العربي فلا يتناول معنى الخلاص والنجاة و”الواقي والمنجي من الهلاك”.
وجاء الفاروق أيضًا اسمًا لدواء اكتشفه طبيب يدعى اليانوس وهو المعلم الذي أخذ عنه جالينوس الطب كما جاء في كتاب “العنوان” للمطران أغابيوس المنيجي الرومي، حيث قال: توجه اليانوس إلى مدينة أنطاكية في السنة التي وقع الموت بأهلها، ومعه ترياق “الفاروق” فمن شرب منه قبل أن يمرض نجا. واستخدم العالم المسلم البيروني كلمة الفاروقة وتفسيرها النجاة في حديثه عن هذا الترياق، الذي ذكر في كتب الطب القديم عند العرب ومنها كتاب الجامع لمفردات الأدوية والأغذية لابن البيطار.
لماذا أطلق السريان لقب الفاروق على عمر بن الخطاب، ومنحوه اللقب الذي كان يعرف به المسيح؟
وكلمة “فُرقان”
fourqono
المشتقة من كلمة فرق، معناها بالسريانية: خلاص، نجاة، نصر، فدية، حق، ملك، وعن المعنى السرياني شرح ابن دريد الصفة التي أطلقت على معركة بدر بـ”يوم الفرقان” بأنه “يوم النصر”، وكذلك فعل ابن منظور في لسان العرب وصاحب القاموس المحيط.
أما لماذا أطلق السريان لقب الفاروق على الخليفة عمر بن الخطاب، ومنحوه اللقب الذي كان يعرف به السيد المسيح، فهذا ما نجده لدى العلماء السريان أنفسهم، يقول المطران اسحق ساكا النائب البطريركي للدراسات السريانية في كتابه كنيستي السريانية، الطبعة الثالثة 2007 ص 98): “ذاق السريان في بلاد سوريا والعراق وغيرهما من البلدان الأمرين من الـروم البيزنطيين لمخالفتهم إياهم بالمعتقد الديني المسيحي، فنفوا أساقفتهم وطرحوا مطارنتهم في السجون، واضطهدوا بطاركتهم، وراح من الشعب آلاف الضحايا، فلمـا جـاء العرب المسلمون بقيادة عمر وقضوا على الروم والفرس، هلَّل السريان واستبشروا خيرًا، فقد كان عهد العرب عليهم عهد خير وبركة وسلام، فـشرعوا ينظِّمـون أمـورهم الإدارية والروحية والاجتماعية، ورفعوا راية النهضة العلمية والفكر ية، وانـصرفوا إلى العمل باطمئنان ذلك أن الإسلام شملهم بالأمان وصان حقوقهم بالعهود والمواثيق”.
وهناك شهادة غاية في الأهمية ذكرها، عام 1200 للميلاد، البطريرك الأنطاكي على السرياني ميخائيل الأول الكبير في تاريخه المسمى باسمه، يشرح مظالم قياصرة الروم في عهد هرقل الملك يقول فيها: “ولهذا فإن الله إله النقمات.. لما رأى عتوّ الروم ودهاءهم، بعث من أرض الجنوب أبناء إسماعيل كي يحصّل لنا النجاة بواسطتهم من أيدي الروم فاستفدنا من ذلك فائدة كبرى، لأننا تحررنا من ظلم الروم ومن مساوئهم ومن سخطهم ومن شديد بغضهم لنا، وتمتعنا بالطمأنينة” (راجع خزائن الكتب العربية في الخافقين، فيليب الطرزي، وزارة التربية لبنان 1947، ص المجلد الأول ص 31).
لذلك كان عمر، حسب تلك الشهادة القديمة، هو المخلص والمنجي لهم، ولنا في الدور الذي لعبه السريان في النهضة العلمية التي اشتهرت بها الحضارة الإسلامية، ودورهم في الترجمة والعلوم والطب في تلك العصور، خير دليل على ما نقول، ولعله كان ردًا للعرفان ودليلًا على الحرية التي تمتع بها السريان في الحضارة الإسلامية، منذ عهد عمر وصولًا إلى العصرين الأموي والعباسي. وربما هذا ما يفسر تردّد اسم عمر لدى بعض مسيحيي سوريا.
ولكن بعد قرابة 1400، يأتي تنظيم متوحش اسمه داعش ليشوّه العلاقة الخلاقّة التي أرادها الفاروق عمر مع السريان، أهل هذه البلاد، والتي أثمرت علمًا وحضارة؛ عندما اقتحم التنظيم قراهم الآمنة، في الجزيرة السورية موطن آبائهم وأجدادهم، واختطف المئات من نسائهم وشيوخهم وشبابهم وأعمل فيهم قتلًا وذبحًا وتشريدًا؛ خدمة لاستعمار طالما أرادها؛ ضاربًا عرض الحائط بمواثيق الأمان وممزقًا العهدة العمرية التي أعطاهم إياها الخليفة الفاروق.