الـحــــــــلّاق

من أوراق الأمسbarberarmy

بعد تخلًي الشباب عن حياتهم المدنية، ألبستهم الزاهية و حاجاتهم الشخصية عند باب المعسكر، فقد تخلوا معها عن كل ألقابهم و صفاتهم، شهاداتهم و مهنهم التي تضم رُوّاداً من مختلف الاختصاصات من الطب البيطري إلى أخصائي بالأعصاب إلى دكتور بهندسة الطرق. . .

أعطي كل فرد منا قطع مختلفة من اللباس الموحًد ضمن كيس من القماش.
سيق الجميع إلى غرفة بعيدة معزولة بالكاد تلوح بالأفق، كلُّ شخصٍ يتبع الآخر مشكِّلين خطاً متعرٍِجاً، بدايته عند بناء المهجع و نهايته عند تلك الغرفة .
كان يسود الصمت المكان نتيجة الشعور المختلط ما بين حذر و ترقب فيأتي ممزوجاً ما بين الشموخ و الإحباط،الولاء و التصغّر، الوطنية و التجمُّل، كل تلك المشاعر ممزوجة معاً أما الجسد فقد أنهكه التعب من يوم يكاد يكون شهراً أو دهر ، يوم كأنه لن ينتهي .
كنا نقترب ببطء من تلك الغرفة البعيدة المعزولة و في عيون كلٍّ منا نفس السوأل المُحًَيِّر :
لماذا نحن ذاهبون هناك ؟
فجأة جائت الإجابة صامتة ، عندما لاحت على الحائط الشرقي للغرفة عِبارة كُتِبَتْ بخطٍ عريضٍ خالٍ من الأناقة، لكنه مقروء ً دكان الحلاق. ً
عندها بدأت حركات عفوية مابين الأيدي و الرؤوس، فمنا من يلعب بشعره و كأنه يتفحَّص و يتأكد من وجوده، و منا من يتلمس شعره بأطراف أصابعه بحركات ناستالجية و كأنه مودعاً حبيباً مسافراً لن يعود.
في ذلك الوقت، شعرنا انه قد أتت ساعة الجد و على كلٍّ منا التصرف بحنكة للمحافظة على أكبر قدر من الشعر على فروة الرأس، فبدأ كلٌّ منا يراقب الشخص الذي أمامه، على أسلوب تصرفه.
كانت الجلسة سريعة جداً فما أن يدخل الشخص و إذ به خارج بعد بضع ثوان.
و باقتراب كل شخص من باب الدكان كان بحركة خفيفة يمد يده إلى جيبه ليخرج قطعة نقود ورقية
لتطوى و تنام في راحة الكف بشكل غير ملحوظ مثل لاعبي السيرك آملاً أن تتحوَّل تلك الورقة النقدية إلى ورقة ضغط رابحة لينال المعالجة الاستثنائية بقصة شعر محترمة.
فكان كل شخص يدخل الدكان بابتسامة باردة بينما يخرج و قد تحولت إلى ابتسامة عريضة.
و ها أنا أجابه الباب لأني كنت التالي، و فجأة يخرج شخصٌ صامتٌ لكن علامات الغبطة تُنَوٍِرُ وجنتيه بينما يطلب مني شخص بوجه بشوش الدخول فدخلت و إذ بالغرفة بدون نوافذ للخارج و ما زاد استغرابي هو عدم وجود أية مرآة، فقط كرسي حلاقة يتوسط الغرفة .
قطع ذاك الشخص شرودي و تساؤلي بصوت رخيم و مرتفع عندما ناداني صائحاً
( أميـــــــر، أمير ) فتحوَّل كرسي الحلاقة إلى عرش أمير المؤمنين و شعرت بكل الفخر و العنجهة . و بحركةٍ سريعة بآلة الحلاقة الكهربائية، أوضح لي أنه جاهز للعمل عسى أني قد نسيت أمراً مُهمّاً فقمت عندها بتسريب الورقة النقدية إلى يده التي تلقفتها بسرعة كما يتلقف الجائع قطعة الخبز، و بحركة بهلوانية انتهت في جيبه.
قلت له بصوت كله رجاء. ً الله يخليك لا تخفف القصة كتير ً
رد علي بغمزة سريعة و كأنه يقول ًفهمت عليك ً أما الكلمات المسموعة فكانت أيضاً
( أميــــــــــر، أمير ) كانت الجلسة سريعة، فقط بضع ثوان و عند الإنتهاء و بقيادتي إلى الباب و لعدم و جود أية مرآة، و باللا شعور تلمٌَستُ رأسي بيدي و شعرت بوبر يداعب يدي و هذا دليل أن الحلاق فهم علي و قدّم خدمةً استثنائيةً لي.
و إذ الابتسامة العريضة على وجهي أنا هذه المرة فشكرته، فأجابني مع فتحه الباب لي لانصرافي (أميــــــر، أمير )
مع خروجنا من عند الحلاق، تجمعنا رتلاً طويلاً و اقتُدنا إلى المهجع و إذ كل منا يتراكض للوصول إلى سريره و لإيجاد مرآة الحلاقة الصغيرة للتحقق من نتائج ( المبادلة السريّة )
فجأة، تحوّلتِ الابتسامات العريضة إلى حالة احباطٍ صامت و من ثم إلى ضحكة عالية عندما تحققنا أن ذاك الوجهَ البشوش قد ضحك على كل فرد منا . فهو لم يُوَفِّرْٰ أي وبر أو حتى زغبٍ من الشعر لكل فرد منا بدون استثناء و إن كنا نشعر باللمس بغير ذلك .
و عندها علمنا لماذا لم يضع الحلاق الخبيث و لو مرآة واحدة بالدكان.
كانت قصات شعرنا كلها متشابهة تماماً و ليس كما يعتقد كل فرد فينا،.
و كلما وقعت عيناي أحدنا على الآخر كان يضحك متفحصاً قصة شعره ثم ينحني إجلالً قائلاً بصوت عالٍ ( أميـــــــــر، أمير )

الأرقش
آذار 2012

About الأرقش

كاتب وطيبيب سوري يعيش بأميركا
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.