ترى “الموسوعة العربية العالمية” الصادرة من السعودية أن العلمانية مرادفة للإلحاد. في حين تعرف دائرة المعارف البريطانية العلمانية بأنها “حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الدنيوية بدلاً من الاهتمام بالشؤون الأخروية”. وهناك عشرات التعريفات الأخرى، يتفق أغلبها مع ما أوردته دائرة المعارف.
ولعل السبب في اختلاف التعريفين، الأول والثاني، يعود الى عوامل تاريخية قديمة وأخرى حاضرة. فالغرب عانى من سلطة الكنيسة عندما كان رجالاتها هم اصحاب النفوذ، مشكلين بذلك حكومات ثيوقراطية شديدة التعقيد والتسلط. اما العالم العربي، فما زال يعاني من تسلط مشابه ولكن ليس بسبب سلطة رجال الدين المطلقة بل بسبب التحالف المطلق بين رجال الدين والدولة على حساب حرية الأفراد. ولما كانت العلمانية تحد من سلطة رجال الدين، بفصل السياسة عن سلطانهم، فقد عمدوا الى تعريف العلمانية على انها إلحاد لا شك فيه. وهو ما يفسر إجماع الفكر العام والشعبي على رفض العلمانية كونها الشيطان بقرنيه وذيله.
وما يعزز رفض كل ما يرتبط بالإلحاد في المجتمعات الإسلامية هو المبالغة في إغراءات الآخرة ونعيمها لكل من عجز عن تحقيق هذا النعيم في الدنيا. فإن كانت السعادة في الدنيا مستحيلة، فإن الإيمان والتمسك بتفاصيله يضمنها في الآخرة. وهو تحديدا ما ينشده البسطاء، والذين هم كثر في العالم الإسلامي.
من أجل ذلك بالغت السلطة الدينية مع الدنيوية في تصوير الأفاعي الخبيثة المستترة وراء العلمانية، ما يبرر في الوقت ذاته إخماد صوت المطالبين بالإصلاح.
لكن حقيقة العلمانية بعيدة عن كل ذلك. فهي لا تنكر الدين ولا تخالفه. إنها تدعو بكل بساطة الى فصل ما هو ديني عما هو دنيوي. قد يرى الكثيرون ان اقراري بهذا الفصل هو تأكيد لإلحادية مبدأ العلمانية. إذ كيف يمكن فصل ما هو ديني عما هو دنيوي لعقيدة تدخل في تفاصيل ومسام المسلم من لحظة استيقاظه وحتى نومه؟
دخول الدين في حياة المسلم لا يتعارض مع العلمانية، لأن العلمانية، التي لا تنكر الدين، تنصرف الى أمور المعاملات اكثر منها العبادات. ومن أهم المعاملات هنا ما يتصل بالشأن السياسي الذي ترى العلمانية ان صلاحه لا يكون إلا باستقلاله عن سلطة الدين ورجالاته. بمعنى أوضح، فإن العلمانية تدعو الى ضمان حرية الفكر والمعتقد لدى الأفراد بما يحول دون الإقتتال او الفتنة التي يعاني منها كل بلد اسلامي اليوم. ونحن ان لم نقر بحق الأفراد باختيار طريقة إيمانهم او معتقدهم، لن نكون اكثر من صورة اخرى لداعش التي تقتل كل من لا يتفق مع فكرها.
وهي حقيقة تدركها على استحياء او خوف عديد من الدول الإسلامية التي تلجأ الى العلمانية بصمت كلما دعت الحاجة. فإقرار دستور وطني يحفظ حقوق الأقليات على اساس من العدل والمساواة هو شكل من العلمانية. إن رفضنا العلمانية هنا فسيكون لزاما فرض جزية على من يعتنق دينا آخر. خذ مثلا المجتمع السعودي الذي هو الأكثر تشددا في نظرته الى العلمانية. هو مجتمع سني بأغلبيته. لكن بإعطاء الطائفة الشيعية وهي الأقلية هناك، أقول أن اعطائها حقوقها الوطنية كاملة، هو إقرار بعلمانية مستترة تفصل السياسة عن الدين. فأين الخطأ في ذلك إن كانت الوحدة الوطنية هي الهدف بدلا من الاقتتال الطائفي؟ قد يقول البعض ان اعطاء الأقليات حقوقها هو أمر أقره الإسلام في قرآنه وأحاديثه. وأنا اقول أن الإقرار بالحقوق الوطنية للآخرين لم يأت بسبب تمسكنا بالإسلام، بل بسبب حاجتنا الى أن نكون اكثر عملية من أن نتقيد بنصوص دينية قد يصعب الفكاك من تفسيراتها الصارمة. كما قد يحول أيضا دون الفكاك من تشدد بعض رجالات الدين انفسهم. وهذا يعني ان العلمانية، لمن يخشى من هذه اللفظة، يمكن ان نطلق عليها اسم آخر هو البرغماتية او العقلانية او سيادة الفكر العملي على القرار السياسي.
لننظر الى النموذج التركي الناجح في فصله بين الديني والدينيوي. فتركيا تقر صراحة بنظامها العلماني، دون ان يفقدها ذلك ادنى قدر من هويتها الدينية. بل لعل مساجدها اكثر في عددها مما لدى أي بلد اسلامي آخر. والمصلين فيها أكثر حضورا من بلدان تفاخر بإسلام أعمق مما لدى تركيا.
العالم العربي الذي هو مهد الأديان، هو ايضا موطن كل الأديان. ويندر ان تجد مجتمعا واحدا يخلوا من تعدد المتعقدات والطوائف فيه. فإن اردت ان تطبق القوانين الإسلامية وحدها والدستور الإسلامي وحده، كون الإسلام هو دين الأغلبية، فستقود الى كارثة وانفصام خطير في المجتمع، إذ أنك سترفض الأديان الأخرى أو الأقليات الأخرى كما سترفضك هي. وهو ما تداركته الأنظمة نفسها التي حاربت العلمانية باللجوء إلى العلمانية نفسها لتدارك الانزلاق في هوة الطائفية، ولكن تحت مسميات أخرى مثل الضرورة السياسية وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة الاجتماعية.
سأزيد على ذلك وأقول إن العلمانية موجودة في صلب العقيدة الإسلامية التي ضمنت حقوق أهل الذمة، ودون إكراه أحد على الإسلام “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”؟ (سورة يونس) فهنا نجد أن الفصل بين السياسي والديني ليس عملا قائمة على طاعة لله وحده كما أمر فقط، وإنما هو ضمان سلامة المجتمع بوحدته، وهو مطلب ديني أعظم. وينصرف الأمر على الكثير من المعاملات الأخرى في الإسلام. خذ على سبيل المثال عهد عمر بن الخطاب الذي اوقف حد السرقة في عام المجاعة. هذا ضرب من العلمانية التي فصلت، عند الضرورة، بين ما هو سياسي وما هو ديني. وحتى بلا مجاعة، فإن اكثر الدول الإسلامية تمسكا بالدين لا تعمل بحد السرقة اليوم. لأنها لو فعلت لأصبح نصف المجتمع معاقا. فلماذا لا تطبق حد السرقة بقطع اليد كما أمر الله تعالى ان لم تكن ضرورة الآن تقضي بخلاف ذلك؟
قضية تحرير العبيد مثل واضح ايضا. فهل يمكن اليوم الإصرار على بيع إنسان لأن الإسلام اقر الرق؟ نعم، الرق اصل ثابت في الإسلام. لكن اصرارك عليه سيجعلك صورة من داعش، وسيحاربك العالم كله. لذلك تقتضي العلمانية، او المنطق والعقل، (سمها ما شئت) التخلي عن تجارة الرق وإن لم يتم نكرانها دينيا.
قال الله تعالى “وإلى الأرض كيف سطحت”، في حين أثبت العلم انها كروية. لا يعني ذلك ان العلم يخالف الدين. لكن العملية في تفسير الدين تجعل من العلم طيعا في أيدينا، بحيث يمكن اعادة تفسير معنى التسطيح اكثر من محاولة إعادة التأكد من كروية الأرض، كما هو الحال مع الشهب التي ذكر الله تعالى انها تضرب الشياطين الذين يستمعون الى الملأ الأعلى، ثم اثبت العلم ان الشهب هي ظواهر تحكمها قوانين الفيزياء لا مجرد رجم للشياطين والجن. نعم، هناك اشياء يمكن ربطها بالدين بالضرورة، لكن هناك اشياء اكثر يجب فصلها عن الدين بضرورة الآن.
ما أريد قوله هو ان لفظة العلمانية التي باتت رديفة للإلحاد، هي في حقيقتها ومضمونها ليست أكثر من الأخذ بالقرارات العملية في الشأن السياسي، بما يتفق وضرورات الآن. وأنه بدون هذه البرغماتية، أو ما يمكن ان نسميها الأخذ بالقرارات العملية والمنطقية بعيدا عن سلطة الدين ورجالات الدين، سيتحول العالم الى بركة دماء تماما كما هو الحال في سوريا واليمن والعراق. من هنا نجد ان فصل ما هو ديني عما هو سياسي مبدأ يتفق وضرورات الآن أكثر منها محضورات الأمس. وأن الأديان في مجملها، لا الإسلام وحده، تحمل في داخلها قدرا من العلمانية، لأنها بدون ذلك لن تكون مصدر سلام ومحبة على الأرض.
واختم بالقصة التي حدثت مع العالم الإيطالي جاليليو عندما تمت محاكمته في الفاتيكان لقوله بأن الشمس مركز الكون لا الأرض، وهو ما خالف كتب الدين التي كانت تؤمن ان الأرض هي مركز الكون. إذ اكتفى بعبارة واحدة دافع بها عن نفسه من الموت قائلا “إن كتب الدين تعلم الإنسان كيف يصل الى السماء.. لكنها لا تعلمه كيف تعمل السماء”.
Nakshabandih@hotmail.com
المصدر ايلاف