لا اتحدث هنا عن داعش و أخواتها من الشرق و الغرب و مذابحهم التي تطال كل مكان فقد كتبت كثيرا عن هذا الموضوع و سأكتب اكثر…لكني اتحدث عن ضحية العيد…. حيث قرأت قبل ايام عن فتوى جديدة عن إمكانية ذبح طير “ضحية”… لا ادري مدى صحة الفتوى لكنها محاولة للتسهيل للناس … و هم الأغلبية من المسلمين ممن يفتقرون الى القدرة الاقتصادية على الحصول على خروف او عجل…. لكن هل على كل مسلم ان يضحّي بهذا الشكل و وفق هذا المفهوم الذي قدمه الأقدمون … او بعضهم… لنا..؟؟..
لا اريد… كما تعودت ان أقول… ان ادخل في قضية الفقه و قوانينه و مبادئه… لكن ما يهمني هو الرؤى الاجتماعية الاقتصادية لهذه التفسيرات… اي تأثيراتها على الواقع الاجتماعي و الاقتصادي للمسلمين… و حيث نريد ان نصل الى هناك لابد ان نبدأ من حيث بدأت القصة و الرؤية القرآنية حول الموضوع….
القصة كما يخبرنا بها القرآن هي حلم النبي ابراهيم عن ذبح ابنه و مجيء جبرائيل برسالة تغيير … سماه القرآن “و فديناه بذبح عظيم”… الفدية هنا تعني تعويض الشيء… و التعويض عادة لا يكون بشيء سلبي بل بشيء إيجابي… و طالما ان التعويض موجه لله… فلابد ان نفهم شروط الله لقبول التعويض… هل الله بحاجة الى دماء و لحوم…؟؟.. القرآن ينفي هذا في أية ” لن ينال الله لحومها و لا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم ” (الحج 37) … و حتى نكون اكثر دقة لابد ان نذكر ان هذه القصة حصلت لنبي… و الأنبياء يبعثهم الله ليبلغوا رسالاته… و يهدو الناس بتلك الرسالات الى طريق الحق و هو معرفة الله… بكلام اخر … ان عمل النبي هو توسيع معرفة الناس للعدالة الإلهية و كيفية تطبيقها على الارض… اي في العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية بين الناس… و بالتالي زيادة تقوى الناس الذي يفرح الله…
هنا نصل الى فرضية مهمة و هي ان التعويض الذي يمكن ان يقدمه النبي لله هو زيادة جهده و عمله في ارشاد الناس… و من هنا أهمية تغيير طريقك عملهم و تفكيرهم بما يبعد العنف و الصراع “ذبح الابن هو احد اهم مؤشرات العنف”… و هذا يقودنا الى ضرورة فهم “ذبح عظيم”…
كلمة “عظيم” مذكورة في القرآن كثيراً… و لكن القاسم المهم في كل استعمالاتها هو ان الكلمة تستخدم كمصطلح اي انها يتم توظيفها للدلالة على قيمة معنوية… إيجابية مثلاً اجر عظيم او فوز عظيم…. او سلبية مثلاً بلاء عظيم او كرب عظيم… الخ… لكن ليس هناك اية إشارة الى شكل او حجم اي شيء سواء كان هذا الشيء إنساناً او حيوانات او حجراً او شجراً…الخ…
و بعيداً عن التأويلات التاريخية عن طقوس الديانات السابقة و طرق تقديمها للقرابين للآلهة المختلفة و هل لتلك التراثيات و الأساطير و المناهج الأكليركية و عادات المجموعات البشرية و عقائدها و مفاهيمها اي تأثير على كيفية تفسير القائمين على الأمور الدينية لآية “الذبح العظيم” بذبح خروف او حيوان ضخم… ؟؟.. ربما … لكن لابد لنا ان نحاول فهم هذا المصطلح على اساسه المجازي القيمي… فالذبح يعني وضع نهاية لموضوع او قصة… و العظيم يدل على جلل او الأهمية القصوى لهذا الطريقة في إنهاء القصة او الموضوع المطروح…
بكلام اخر… اننا في هذه القصة ازاء عمل رهيب و هو التضحية بالإبن… و هذه دلالة على اشكالية كبيرة في التواصل بين الانسان و ربه… و على هذا الأساس فان الامر يبدو و كأنه يتعلق بإيجاد طريقة عظيمة و مهمة في إنهاء هذه القطيعة… و بناء التواصل بدلا من ذلك…. و بناء التواصل هذا هو الذي يربط قصة الذبح بالعيد… كيف..؟؟..
العيد… رغم الاحترام لكل التفاسير التي تقدمه و كأنه اجماع الناس و إقامة الافراح … الا انه يعني شيئاً مهماً نعرفه جميعاً لأننا نمارسه كل يوم في حياتنا سواء بشكل فردي او جماعي و لأكثر من مرة كل اليوم… انه النقطة التي نصل اليها في استهلاك طاقتنا… عندها يجب ان نتوقف عن النشاط… لكي نستجمع قوانا…. كما يسمى في المصطلحات العسكرية و الاستراتيجية و هو يتعلق بميكانيكا الجسد … و يستخدم ايضا في الآلات و المكائن…
نحن جميعاً… ننام في الليل… او عندما نشعر بالإرهاق الشديد… و كذلك نتوقف عن العمل… و نتوقف حتى عن الحرب في ساعات معينة… لكي نعيد بناء قوانا الجسدية و المعنوية و نبدأ بعد حين من جديد.. و هذا هو العيد.. بمعنى اعادة البناء للذات … فردا و جماعة… و إقامة الافراح هي بلا شك احد المظاهر المهمة لانه يعتبر احد اهم آليات الاسترخاء و الابتعاد عن الضغط النفسي و الجسدي كما تقول الدراسات الفسيولوجية و النفسية… لكن هناك ثوابت اخرى للعيد… و الاسلام مثل غيره من الأديان و الفلسفات… يدعو الى استغلال العيد الى اعادة التواصل مع الأهل … صلة الرحم… و الأصدقاء و الجيران… و نسيان تراكم الاحقاد و الضغائن…. و المشاكل و أسباب التباعد … الخ…
هناك ايضا نقطة مهمة و هي ان الجميع يختلط مع الجميع… اي ضرورة التخلص من الانقسامات الاجتماعية سواء بين الأغنياء و الفقراء … او بين الرجال و النساء و الكبار و الصغار… الجميع يلتقون و يتبادلون التهاني بالعيد…. و اكبر الثواب لمن يبدأ قبل غيره…و هذا معناه التسابق في التصالح مع الجميع…. و هذا اهم أسباب تحويل الطاقة السالبة الى طاقة إيجابية … ليس فقط على المستوى الفردي و إنما ايضا عند المستوى الجماعي و الاجتماعي… و لو استخدمنا اللغة القرآنية فان ذلك يعني تغييرا جذرياً في طريقة التعاطي مع الآخرين… و ليس هناك اعظم من هذا لايصال هدى الله الى الناس بطريقة سلسلة يقبلها الجميع…
لكن تبقى هناك الاشكالية التي تحدثنا في بداية المقال… اشكالية جمع العيد و الذبح في ظروف الناس غير القادرة على الجمع… و لكي نفهم اكثر فلنبدأ في رسم صورة الذبح … هذه الصورة تدل على احد الصقوس المتوارثة التي تمارسها الناس بقناعة دون طرح الأسئلة ازائها…
الطقوس…. رغم أهميتها في تجسيد الرؤى و الأحلام و القيم الروحية في ممارسات عملية… الا انها تختزل القيم الاخلاقية في سلوكيات مادية تَخَلَّق شرخاً واضحا بين الذين يمارسونها و الذين يمتنعون عن ذلك خاصة ان هذه الطقوس هي ممارسات علنية يشهدها الآخرون من أفراد المجتمع… هذه الطبيعة المهرجاناتية تفضح بوضوح الذين يمتنعون عن ممارستها و بالتالي فهي تساهم بشكل مباشر في تقسيم الناس بين الممارسين و غير الممارسين بغض النظر عن الأسباب و المسببات…و حيث ان الممارسة هي هوية الإيمان فان مجرد الامتناع الظاهري لممارسة الطقس يؤدي بصاحبه الى الاستقصاء عن الجمع العام و ربما وضعه في خانة غير المؤمن…. ربما لا يؤدي بالضرورة الى التكفير مباشرة و لكن لا شك انه يترك أثراً في عدم التوافق الاجتماعي..لماذا..؟؟
لان الطقوس … كما قلنا… هي ممارسة جماعية… و في مثل هذه الممارسات الجماعية فان الناس تحكم بما ترى و ليس بالنوايا و الأسباب الشخصية … و هنا لا تختلف الطقوس الحديثة عن الطقوس الدينية او التقليدية…. مثلا لو حضرت حفلة عرس و لم ترقص… او مأدبة عشاء و لم تأكل فستترك لدى الآخرين نوع من الريبة… هذه الحالة تلعب دوراً ايضا في التجمعات الشبابية في المجتمعات الغربية فالذي يمتنع عن التدخين او تناول مشروبات كحولية ينظر اليه الآخرون بشكل غريب و قد يجدون مختلف التأويلات التآمرية لوصف حالته… لكنه في كل الأحوال يتعرض الى شكل من أشكال التمييز السلبي….
فكرة الجماعية التي تتمحور حول الطقوس …. كانت تلعب دورا حاسماً في العلاقات السائدة في بعض القبائل و المجموعات السكانية في أماكن مختلفة في العالم… كان الغريب ( المختلف مع أعراف و قوانين القبيلة) يتم شيطنته و قتله ( نتذكر المثال المصري… ما غريب الا الشيطان)… و ربما تفسر هذا الحالة او العقدة تجاه المخالف او المختلف احد اهم أسباب التنكيل بالأقليات في كثير من المجتمعات و منها العربية و المسلمة… (هذا موضوع مهم نعود اليه لاحقا)…
و حتى لا نخرج عن سياق أطروحة المقالة… فان ما اريد ان أوضحه هنا ان الممتنع عن المارسة الجماعية … الطقوس… ان لم تؤدي الى صراعات فإنها على الأقل تمنع من الوصول الى الذروة في مفهوم العيد… او يمكن ان نسميها نقطة الانقلاب من الطاقة السلبية الى الإيجابية … اي اعادة البنية الاجتماعية للمجتمع و البنية النفسية للأفراد…
هناك ايضا الجانب الاجتماعي الاقتصادي حيث يتشظى المجتمع بين الأغنياء و الفقراء… بين المقتدرين و غير المقتدرين… بين الذين يذبحون خروفاً صغيراً… أو ربما عنزة أو حتى طيراً… و بين أولئك الذين يذبحون عجلاً او جملاً … و هذا التشظي يرسخ الواقع الاجتماعي بين ساكني القصور و ساكني بيوت الصفيح او العشوائيات… و الاسوأ هو حال أولئك المشردين في الشوارع و الحارات بملابسهم الرثة و فتات مأكلهم الذي يجمعونه من القمامة…
مع كل احترامي لاصحاب الفتاوى و القائمين على ممارسة الطقوس… لكن لا بئس ان نتساؤل… هل لدى هؤلاء المهمشين مكان في ثنايا فتاواهم..؟؟.. هل يفكر أهل الفتاوى ان يرسموا ابتسامة على شفاه الملايين من النساء المحرومات من الزواج و الأمهات الثكالى و الأطفال اليتامى و الشيوخ العاجزين و الشباب الهارب من واقعه الى المجهول….أليس من حق هؤلاء ان يتمتعو بذات العيد الذي من المفروض ان يكون للجميع…؟؟؟..
ماذا سنفعل… ؟؟.. رايي الشخصي كتبت عنه كثيرا في مجال التنمية و ضرورة اعادة قراءة التراث في ضوء الواقع المتغير… لكن هذا مجال اخر و سنواصل العمل عليه… الان اود ان اقدم الاحترم لآراء الآخرين … و أتمنى ان نرى و نسمع فتاوى تأخذ بنظر الاعتبار حال الناس و حال المجتمع… أتوقف هنا لان المقالة طالت… نبارك العيد و كل عام و أنتم بخير… و حبي للجميع..