د. اكرم هواس- اكاديمي عراقي- الدنمارك
فكرة هذه المقالة أدين بها لأحد أصدقائي و قد شكرته كثيرا و اشكره الان مرة اخرى… هذا الصديق طرح علي سؤالا مهما و هو : ما هي حظوظ التيار الديمقراطي في تحقيق إنجاز في الانتخابات المقبلة في العراق خاصة اذا اخذنا بنظر الاعتبار البنية الاقتصادية و الاجتماعية ..؟؟…
أهمية السؤال اولا… لانه يرتبط بمجموعة مقالات كتبتها في الآونة الاخيرة عن التطورات في الشرق الأوسط بشكل عام و خاصة في مصر و سوريا اضافة الى العراق… ثانيا…. لارتباط السؤال بالتيار الديمقراطي الذي يعتبر تطورا حديثا نسبيا في محاولة للخروج من الإطار الحديدي لمفهوم التحزب التقليدي في العالم الثالث و هو إطار تجاوزته بعض الأحزاب في الغرب منذ ما يقرب من عقدين لكن الأحزاب ظلت هي النواة الاساسية في التطور السياسي…ثالثا… يرتبط السؤال أيضاً بالعلاقة بين مفهوم الديمقراطية و التغييرات البنيوية في ظل الثورات العربية….
لكني سأبدأ بالنقطة الثانية كون هذا الصديق ينتمي الى هذا التيار و يحتل موقعا مرموقا في الحزب الشيوعي العراقي …. و هذا مؤشر أولي عن العلاقة الوثيقة بين هذا الحزب التاريخي العريق و نشوء هذا التيار الحديث… هذا التيار منفتح رسميا لكل الأفراد بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية و غيرها وان كان هناك من يعتقد ان الحزب الشيوعي او قدامى الشيوعيين و الماركسيين بصورة عامة هم الذين يقودون هذا التيار…
المهم هو ان الحزب الشيوعي العراقي قد دخل بالفعل في كتلة مع احزاب و تنظيمات تحت اسم او شعار التيار الديمقراطي في الانتخابات المقبلة و مع الاحترام لكل التنظيمات الاخرى و كذلك الأفراد المستقلين فانه من المؤكد ان الحزب الشيوعي يشكل الثقل الأكبر تاريخيا و ثقافيا و تنظيميا…
لكن ما يميز التيار بشكل عام هو انه يقدم نفسه على أساس انه تيار علماني… و هذا الشعار … يضع حاجزا قويا امام انتماء الأفراد الذين لديهم ارتباط تنظيمي او نفسي بالاحزاب و الحركات الدينية او الأفكار و القيم التقليدية… لان العلمانية أصبحت لوحدها تهمة تبعث على الريبة و ربما حتى التكفير.. و هذه الحقيقة المرة هي واحدة من اهم المؤشرات التي تقلص كثيرا من إمكانية تحقيق اي إنجاز في المدى القريب…
و رغم ان العلمانية تعني أشياء كثيرة من جهة و من جهة اخرى هي ليست واردا جديدة من الغربية على العالم الاسلامي الا ان التغييرات البنوية في النظام الاجتماعي نتيجة التصادم غير المتجانس بين الطبقات و الشرائح الاجتماعية المصاحبة للثورات العربية و بفعل التطور التكنولوجي قد أوصلت العلاقات الاجتماعية و السياسية الى حدود شديدة الدقة بين القبول و الرفض و بين التقبل و الإنكار او التكفير..
و هذا الكلام يربطنا بالنقطة الثانية … حيث ان هذه الثورات …. سواء في المجتمعات التي حدثت فيها و بنسبة اقل في المجتمعات المحيطة … قد احدثت استنزافا هائلا في الطاقات كما زادت من التراكم التاريخي للإحباط و الغربة النفسية نتيجة عوامل الفقر و الإهمال و التخبط السياسي و الافتقار الى الهدف في التطور الاجتماعي بصورة عامة… كل هذه العوامل قد شرعنت العنف و التشكيك بالآخر و رفضه لأتفه الأسباب و أقلها قيمة استراتيجية لان القيم قد فقدت قدرتها التفاعلية و أصبحت سلعة رخيصة في سوق التبادل التجاري الأخلاقي … بكلام اخر … كل شيء قابل للتسيس غير العقلاني و للتوظيف المصلحي دون أدنى استعداد لطرح أسئلة بديهية مثل لماذا و كيف…
و حتى لا نبتعد كثيرا عن محور الموضوع الأساسي فان ما اعنيه هو ان مفهوم الديمقراطية و الآليات الممكنة لتأسيس نظام ديمقراطي قابل لديمومة و لنشر العدالة و لو بشكل مبسط و نسبي اصبح أيضاً أمرا محكوما بالتقييم السطحي اجتماعيا و بالقوة الفيزيكية … العضلات العسكرية … على مستوى إدارة المجتمع و الدولة… و هذا يقودنا إلى النقطة الاولى….
في مقالتي الاخيرة … السلطان و الانتخابات…. لعبة دموية…؟؟؟!!!…كنت قد أشرت الى الانتخابات المقبلة في العراق و مصر و سوريا و لبنان ستحسم مبكرا عن طريق العمليات العسكرية… لكن حتى نضع هذه الفكرة في إطار السؤال عن التطور الديمقراطي فاني أدعو القارئ ان يعود الى مقالة سابقة كتبتها بعد التغيير الذي حصل في مصر في تموز/يوليو السنة الماضية… المقالة بعنوان ….الانقلاب…. نموذج ديمقراطي جديد…؟؟….. و فيها أشرت الى ما يمكن ان يكون النظام الديمقراطي المقبل في مصر و ربما في الشرق الأوسط…
و هنا اود ان الخص هذه الرؤية في نقاط… اولا… ان مشروع بناء الديمقراطية بمفهومها الليبرالي الغربي قد طواها الأمريكان و الغرب بصورة عامة و حلت محلها أولوية بناء استقرار… هنا من المهم لنا ان نفهم ان هذه ليست رغبة عبثية من قبل الأمريكان و الغرب و إنما استجابة لمتطلبات واقعية تخص التطور الاجتماعي السياسي في الشرق الأوسط.. ليس لان شعوب الشرق غير قابلة للدمقرطة …. كما يحلو للبعض ان يسميها…و إنما لان البنى الاجتماعية و السياسية …. تحتاج الى تغييرات جوهرية لا تسمح بها شبكة العلاقات التي تربط الغرب بالقوى المهيمنة في الشرق الأوسط…. و هذه الشبكة من العلاقات تتجاوز الدولة هنا و هناك و تمتد عميقا … ثقافيا و اقتصاديا و سياسيا… داخل المجتمعات بشكل لا يمكن هدمها و احلال بديل لها دون ان تخلق أضرارا هائلة بالمجتمعات الغربية ذاتها بالاضافة الى المجتمعات الشرق أوسطية…
و على هذا الأساس فان مفهوم الاستقرار لا يعني الاستقرار التقليدي … اي عدم وجود عنف مثلا… في دول الشرق الأوسط… و إنما يعني استقرارا يضمن ديمومة عمل تلك الشبكات…. و أيضاً بما ان الاستقرار لا يعني استقرارا تقيليديا… فانه ليس ضروريا الإبقاء على الاطر التقليدية لأنظمة الحكم بما في ذلك التحالفات السياسية و الولاءات التي حكمت في العلاقات الدولية… بين دول الشرق الأوسط و الغرب…
ثانيا… بناء على هذا الأساس فان السيناريوهات المقبلة امام الديمقراطية في الشرق الأوسط قد تكون على شاكلة ثلاثة نماذج هي روسيا و الصين و ايران …. اثنان من هذه النماذج هما نموذجان ديمقراطيان اي روسيا و ايران بينما النموذج الصيني فهو ديمقراطية غير مرئية تدور في إطار الحزب الشيوعي الحاكم الذي تحول الى بيروقراطية ليس الا…
المهم ما يجمع هذه النماذج هو عامل حاسم يرتبط مباشرة بالنظام السياسي و هو المؤسسة العسكرية… هذه المؤسسة هي التي تحوي النظام و تشكل إطاره الخارجي و كذلك قنواته الداخلية للتحرك و التفاعل…صحيح ان المؤسسة العسكرية أيضاً تلعب دورا و حاسما في ديمومة النظام الديمقراطي في الدول الغربية الا ان المؤسسة العسكرية في الغرب لا تهيمن على جميع خطوط التفاعلات بشكل مباشر و فاضح… لكن في الدول الثلاث …. و في دول كثيرة اخرى في العالم … فان المؤسسة العسكرية تمثل الهيكل العام لوجود الدولة التي تعبر من جانبها العصب الحيوي الضامن لوجود الدولة و المجتمع و تفاعلاتهما المختلفة…
و لذلك فإنني في تلك المقالة … و مع كل الاحترام لمن يسميها ثورة 3 يوليو و كذلك عن المجادلات السياسية مع القوى الاسلامية في المصر و التي لا امنح نفسي الحق في التدخل فيها… الا أني أطلقت على ما جرى تسمية الانقلاب … و ربما كنت في ذلك من أوائل الباحثين… و ذكرت ان الانقلاب المصري ليس انقلابا تقليديا بل محاولة لخلق نظام ديمقراطي بديل شبيها بأحد تلك النماذج التي ذكرتها آنفا … كما ذكرت ان النموذج المصري… و هو ما يبدو اكثر وضوحا الان… قد يشكل نموذجا يقتدى في الشرق الأوسط … و ما أعتقده انه سيحصل في سوريا و العراق أيضاً في مرحلة قريبة… و دول اخرى على الطريق..
ثالثا… و لكن بما ان الموضوع الرئيسي يدور عن العراق فان التركيز على إمكانيات بناء نموذج مماثل لتلك النماذج اي الروسية و الصينية و الإيرانية في العراق…. اعتقد هنا انه خلافا للوضع في مصر و سوريا فان العراق يفتقر الى مؤسسة عسكرية متكاملة… لكن ماذا يعني مفهوم مؤسسة عسكرية متكاملة…؟؟؟..
هذا المفهوم يؤشر الى منظومة مترابطة من قطاعات ذات اختصاصات مختلفة و شبكة تواصل عملياتي فعال و هيكلية رصينة من التراتبية التي لا يمكن تجاوزها و ترتبط بكل الشبكات التي تدير القطاعات المختلفة داخل المجتمع… بكلام اننا لا نتحدث عن الجيش و الشرطة و الأمن و المخابرات وغيرها… إنما نتحدث عن كل قطاع فعال داخل المجتمع سواء كان عسكريا او اقتصاديا او إعلاميا او اجتماعيا او دينيا او ثقافيا او منظمات غير حكومية او مجتمع مدني او غيرها… كل هذه القطاعات لابد ان تدور وفق نظام عام ترسمه النخبة العسكرية … لكن باختلاف واضح مع الأنظمة الدكتاتورية التي يدور فيها كل شيء في فلك المؤسسة العسكرية… بينما في النظام الديمقراطي الذي ينتعش داخل إطار المؤسسة العسكرية فان هناك مجالات واسعة للأحزاب و المنظمات ان تعمل بشكل مستقل بشرط أنها لا تجاوز الإطار العام.. هذا التوافق و التطابق بين أطروحة و هيكليات المؤسسة العسكرية و القطاعات المجتمعية الآخرة لابد ان ان ترتكز الى ثقافة عامة… وطنية… دينية …او اي شيء اخر … لخلق روابط أخلاقية و قيمية بين المؤسسة العسكرية و الشعب بما يضمن صورة يرى الشعب من خلالها المؤسسة العسكرية ضامنة لاستمرار الدولة و المجتمع دون تدخل مباشر في المناهج السياسية للأحزاب و المنظمات…
مثل هذه المؤسسة غير متوفرة في العراق لان المؤسسة العسكرية قد تم تفكيكها كون وجودها لم يعد يتوافق مع الواقع الجديد… نذكر منها أسباب يعرفها الجميع… العقيدة العسكرية في اي جيش في العالم يرتكز على اعتبار بلد معادي… عقيدة الجيش العراقي كان تعتبر ايران عدوة بالاضافة الى اسرائيل و هذا لا يتلائم مع التركيبة السياسية الجديدة في العراق ما بعد الاحتلال فالنخب السياسية لا تريد ان تعتبر ايران عدوة…أيضاً ان تلك كانت مبنية على مفاهيم قومية عربية شرعنت لحرب سنوات طويلة ضد الكورد و هذا أيضاً كان يجب ان يزول لان الكورد أصبحوا جزءا أساسيا من النخب السياسية.. العامل الثالث هو ان الولاءات القبلية للعسكريين العراقيين كانت موجهة الى قبائل تقع خارج خارطة النخب السياسية الجديدة.. و اخيرا الثقافة الشعبية للجيش العراقي كانت أيضاً تعبر مخالفة للثقافة الشعبية التي سادت بعد زوال النظام السابق..
الان و الجيش العراقي يحارب في غرب العراق فانه يمكن وضع هذه الحرب ضمن محاولة ترسيخ مكونات المؤسسة العسكرية الناشئة من خلال رسم صورة الجيش الذي يحمي الوطن من عدوان و خارجي اولا… و ثانيا انه يحقق انتصارات… هذا العاملان يلعبان تاريخيا دورا في مهما في قبول الناس لإعطاء دور كبير و حاسم في التطور السياسي اللاحق…
و في الحقيقة ان من بين من أراهم ينتعشون لانتصارات الجيش على الإرهاب … ارى مثقفون لبعضهم تاريخ في انتقاد الحكم الحالي و بعضهم ممن ينتمون الى التيار الديمقراطي… و لا ادري ان كان هذا من باب الوطنية التي غابت في خضم الصراعات الدينية و العبثية في السنوات الاخيرة ام هو جزء من الدعاية الانتخابية… لكن من الضروري ان نقرأ المعادلة هكذا… اذا انتصر الجيش… فان الانتخابات ستأتي بنظام ديمقراطي عسكري… و اذا خسر الجيش لا سامح الله… فان الانتخابات لن تجرى … و في كلا الحالتين… الديمقراطية التي تعني تغييرا اجتماعيا و اقتصاديا لن ترى النور الان و ربما لن تراه أبدا…طبعا الا اذا برز من يقدم لنا تفسيرا آخراً او نظرية عن نموذج مختلف … أتمنى ذلك و سأكون سعيدا لقراءة اي نقد او تعليق او ما شابه…
شكرًا لصديقي مرة اخرى و تحياتي و حبي للجميع