هناك عادة حسنة في القراءة. أو في إعادة القراءة. وهي أن تعود إلى ما كتب عن رجال التاريخ وهم أحياء، وليس بعد زمن. وفي دهشة اقرأ ما كتبته جانيت فلانر، عميدة مراسلي القرن الماضي، من برلين العام 1936. كان هتلر في أوج عزه، وقد استطاع خلال 15 عاما أن يحول نفسه من عريف سابق في الجيش إلى «الفوهرر»، القائد. لم يجر الرجل النمساوي خلفه بلدا متخلفا، بل الشعب الألماني «خيرة الشعوب الشمالية» التي أراد لها أن تحكم العالم، بعنصرها الصافي الدماء وخلاياها المتفوقة على سائر البشر. بالقدرة الخطابية سحر أهم الشعوب الصناعية في العالم. أنقذ ألمانيا من الإفلاس ثم قادها إلى الدمار. رسام نمساوي فاشل يعمل دهانا في النهار ورساما في الليل. تائه في مدينة ميونيخ، يقرأ في الفكر ويصغي إلى الموسيقى ولا يكاد يسد رمقه. رجل بلا ثقافة يؤسس فكرا بدائيا ومتناقضا قائما على «عبادة» ألمانيا وكره الشيوعية واحتقار الطبقة الخاملة.
رجل بلا هوايات، بلا ترف، يفضل العزلة والعمل وله صديق مقرب واحد، نائبه رودولف هس. ولا ضرورة لأن أحزركم أين ولد هس. مثل جميع مشاهير القرن الماضي، ولد في الإسكندرية. لا يمزح الفوهرر ولا يهذر، بعكس جنراله الأول، غورينغ، الذي كان يكافئ سائقه كلما روى له نكتة تسخر منه. الفوهرر كان يكره هذا النوع من النكات. وكتاب الكاريكاتير الوحيد الذي سمح به في المرحلة النازية كان مجموعة الرسوم الساخرة التي وضعها أيام الفقر.
ناداه مرة أحد رفاق النازية «أيها القائد»، فأصدر مرسوما بتبني اللقب. ليس هو فقط القائد الأعلى، بل القائد المطلق. طاعة لا حوار. وقد اقترح عليه مرة أحد مستشاريه أن تتضمن النازية إشادة بالأحزاب الأخرى، فقال: «لماذا؟ هل رأيت مرة شركة صابون تعلن عن نتاجها ونتاج غيرها؟».
قبل علاقته بإيفا براون، التي انتحرت معه يوم وصل السوفيات إلى برلين، لم يعرف عن هتلر تعلقه بالنساء. جميع صديقاته كن ممن عرفهن أيام الفقر. وبعد 15 عاما من الخطابة من أجل الوصول، اضطر لدى وصوله إلى عملية جراحية في حنجرته، في وترين من الأوتار الصوتية. كان يغمى عليه من منظر الدماء لكنه لم يمانع في إسالة دماء الكرة الأرضية. وكان يعوض عن قسوته بحب المسرح والموسيقى. ولم يتخلَّ عن الذهاب إلى مطاعم الدرجة الثانية التي اعتادها شابا. كما كان يتمتع بطاقة جسدية هائلة على احتمال مشاق السفر، وأفضل الأنواع لديه السفر بالطائرة.
كان يحب ميونيخ أكثر من برلين. يروى أنها تجسد الثقافة الألمانية. وفي هذا، على الأقل، يشاركه كثيرون. أحب بافاريا أكثر من برلين البروسية. لماذا؟ لأن بروسيا كانت محبة للحرب.