لئن كان من العبث محاولة مناقشة من ارتكبوا الجريمة ضد أسبوعية شارلي إيبدو ومؤيدي ذلك الفعل الإجرامي البربري بوجه عام، فمن الغريب أن نقرأ ونسمع بعض السياسيين والمثقفين والجامعيين والصحفيين العرب يرددون كلاما أقل ما يقال عنه إنه كلام إما أن أصحابه يعانون فقرا فكريا مدقعا أو أنهم مخاتلون شعبيون أو هم ذلك كله.
كيف يمكن لأستاذ جامعي أن يصرح على قناة تلفزيونية جزائرية أن الغرب يستفزنا برسومات كهذه لأنه يعرف بأننا سنخرج في مظاهرات عنيفة ثم سيشير إلينا بالبنان على أننا شعوب عنيفة! كيف يمكن لرجل جامعي أن يطلق تعميمات وأحكام جزافية وتحليلات مضحكة كهذه؟ إنني أتساءل عن الطريقة التي يشرح بها هذا الأستاذ لطلبته الفصل بين السلطات في فرنسا وعلاقة الصحافة بالسلطة وحرية التعبير والرأي؟ وعلاقة شارلي إيبدو بذلك كله؟ وما علاقة هذا الغرب المتوهم بهذه الصحيفة؟ هي تحاول أن تضحك القراء دون قصد الإساءة لأحد، ولا تكيل بمكيالين كما يدعي الكثيرون فهي ترسم كذلك المسيح ونبي اليهود وبابا الفاتيكان.. أما عن مسألة المحرقة التي كثيرا ما رددها المعلقون العرب هذه الأيام كبرهان على هذا الكيل بمكيالين ففي القانون الفرنسي ما يجرم إنكارها ولكن لا قانون يجرم الهزل حتى وإن اتخذ من المقدسات موضوعا.
وعبر شاشة تلفزيون لبناني يطل علينا محلل عربي مقيم بباريس ذاتها يطالب فرنسا بإصدار قانون يجرم السخرية من الأديان! هل يعلم هذا الأستاذ أن الهزل والسخرية والضحك من ركائز الجمهورية الفرنسية، بل هو تقليد صحفي فرنسي بامتياز ولا يمكن التنازل عنه إطلاقا. وبما أن الإسلام غدا مكونا من مكونات النسيج الفرنسي اليوم فكان على المسلمين الفرنسيين أن يتكيفوا مع الواقع القائم وهم فعلا لا يجدون في أغلبهم عسرا كبيرا في تقبل السخرية. وبماذا يجيب الأستاذ المتمتع بحداثة باريس المسيحيين واليهود والبوذيين وغيرهم إذا قالوا إن هناك نصوصا أساسية في الدين الإسلامي تسيء إلى عقائدهم ومقدساتهم وينبغي على المسلمين حذفها من كتبهم؟
وقد ذهب بروفيسور جزائري يدرس العلوم السياسية والإعلام في جامعة الجزائر إلى أبعد حدود الاستخفاف بعقول مشاهدي نفس القناة حينما اعتبر أن الجريمة التي ارتكبت في حق جريدة شارلي إيبدو ما هي سوى مجرد مسرحية رديئة من صنع الفرنسيين من أجل اتهام المسلمين بالإرهاب! ولكن ما هو أخطر أن تسمع وزيرا جزائريا إسلامويا سابقا يخلط عمدا أو جهلا بين جريدة هزلية والحكومة الفرنسية بل وفرنسا كلها ويطالب حكومة الجزائر باستدعاء سفير فرنسا في الجزائر للاستفسار عن رسومات شارلي إيبدو الأخيرة! فهل يعلم سيادة الوزير أن في فرنسا حرية صحافة مقدسة والقضاء هو وحده الفاصل في أمور القذف والمس بكرامة الأشخاص؟ كما يدعي هذا “الخوانجي” عبر الشاشة وأمام الملأ أننا نعيش حربا صليبية جديدة، هو الذي لا يتوانى في تلبية دعوات القنصليات والسفارات الغربية في الجزائر!
أليس من الجرم أن نرسخ في عقول الناشئة فكرة أن العالم كله يتآمر علينا ويدس لنا الدسائس؟ ألا تشجع هذه الشعبوية الدينية التطرف والإرهاب؟ ألا يجرّ هذا التبذير في الكلام إلى جر الماء إلى طاحون الإرهابيين؟ ألم يهتف جزائريون في مظاهرات ضد جريدة شارلي إيبدو الأخيرة بحياة داعش مرددين : “الجيش، الشعب معك يا داعش”؟ ورفعوا حتى شعارات تصف الأخوين الإرهابيين “كواشي” بالشهيدين؟ أليس من الضروري أن نحاول إيصال ذرات عقل إلى تلك الجماهير المجهلة بدل تهييجها لتعرف يوما أن الدفاع عن كرامة بشر واقعيين كـ“رائف بدوي” المنكل به في السعودية والوقوف ضد إجرام داعش التي يهتفون بحياتها هي الكرامة وليس الخروج في مظاهرات مجنونة ضد رسم على ورق لم يجبرهم أحد على رؤيته!
ألا يجدر بنا أن نكنس أمام بيوتنا؟ أن ننظم مجتمعاتنا المفككة ونعتني بجامعاتنا التي تحتل ذيل الترتيب العالمي، وننهض باقتصادنا الريعي..؟
“ينبغي أن نقبل على هذه الحضارة باسمين لا عابسين” هكذا أوصانا العظيم طه حسين، فمتى نخرج من مرحلة الجهل العابس ونطرق أبواب التفكير المرح؟