عندما سمعت من أحد العراقيين بأن المطبخ العراقي مأخوذ من المطبخين الإيراني والتركي عجبت وفزعت من مقولته التي تعني محدودية علمه في هذا الجانب على أقل تقدير، ولكن عندما علمت ان القائل يعيش في إيران وزوجته فارسية وولائه للخامنئي زال فزعي وعجبي. لكن البعض ممن أيد وجه نظر هذا الرجل كما يبدو ليس لهم معرفة بالمطبخ العربي عموما والعراقي خصوصا، وهذا جانب من جوانب النقص في الثقافة العامة، كنا نطالع أحد الصحف النرويجية، وفيها مقال قصير عن نوع من الكعكة المشهورة في النرويج وتسمى
(Pepper Kake)
وهي تعني الكعكة الحارة، وليست هناك علاقة للفلفل بالكعكة ولكن المقصود به الدارسين (القرفة) لأن فيها شيء من الحرارة، المقال يقول ان أصل هذا الكعك والبسكويت هم العراقيين فقد كان يصنعه السومريون قبل آلاف السنين، العجيب ان الكثير من العراقيين لا يعرفون هذه المعلومة بل يعتقدوا إنها أجنبية.
المهم سنتناول في هذا الجزء ما يثبت ان العراقيين والعرب عموما هم أصحاب أفخم واقدم مطبخ عرفه العالم، والكثير من الأطعمة والحلوى التي نتناولها اليوم عرفها أجدادنا قبل أكثر من ألف سنة، وانه لا المطبخ الفارسي ولا الرومي (التركي سابقا) كانا يضاهيا المطبخ العربي، صحيح ان هناك مأكولات أخذها العرب عن الروم والفرس وبقية الشعوب بحكم العلاقات الثقافية والإجتماعية، لكن ما أخذه الفرس والروم وغيرهم من المطبخ العربي يكاد لا يقارن بما أخذه العرب منهم، وهنا ستبطل مقولة الفرس بأن طعام العرب كان السحالي والجراد وغيرها، وفي الجزء القادم سنقلب السحر على الساحر ونبين ان الفرس هم من كانوا يتناولوا مثل هذه الأطعمة التي يعيبون الأعراب عليها.
من المعروف أن أقدم كتاب في الطبيخ هو (كتاب الطبيخ) لمحمد بن الحسن البغدادي، توجد مخطوطة منه في متحف (اياصوفيا)، وأخرى في المكتبة الوطنية بفنلندا. يتضمن الكتاب طرق صنع الطعام والحلوى، وآداب المائدة، وأنواع القدور والأواني المستخدمة، وتنظيم الموائد، وطرق تقديمها، ووصايا للطباخين منها” ينبغي للطباخ أن يكون حاذقاً عارفاً بقوانين الطبيخ، بصيراً بصنعته، وليتعاهد قص أظافره بحيث لا يحيف عليها، ولا يتركها تطول، لئلا تجتمع الأوساخ تحتها، وليختر من القدور: البرم ثم من بعده الفخار، وعند الضرورة النحاس المبيض، وأردأ ما طبخ في قدر نحاس قد نصل بياضها”. (كتاب الطبيخ).
سنتحدث في هذا الجزء عن بعض المأكولات والحلوى العربية القديمة التي يفتقر اليها الفرس وبقية الشعوب. وسنعتمد المصادر العربية القديمة بعد الفتح الإسلامي للجزيرة العربية أي منذ القرن الهجري الأول وما بعده.
1. اصابع زَيْنَب
قال الابشيهي” أصابع زينب ضرب من الحلوى يعمل ببغداد، يشبه أصابع النساء المنقوشة”. (المستطرف). قال المأمون:
فما حملت كف امريء متطعما ألذ وأشهى من أصابع زينب
وقال العاملي” هي ضرب من حلواء تعمل في بغداد تشبه أصابع الناس المنقوشة”. (المخلاة). وقال الثعالبي” اصابع زَيْنَب: ضرب من الْحَلْوَاء بِبَغْدَاد يدعى أَصَابِع زَيْنَب وَفِيه يَقُول أَبُو طَالب المأمونى:
أحب من الْحَلْوَاء مَا كَانَ مشبها بنان عروس فى حبير معصب
فَمَا حملت كف الْفَتى متطعمــا ألذ وأشهى من أَصَابِع زَيْنَب ( ربيع الأبرار).
وَكَانَ ابْن الْمُطَرز شَاعِر الْعَصْر بِبَغْدَاد عِنْد صديق فأحضر لَهُ أَصَابِع زَيْنَب فَأَهوى إِلَى وَاحِدَة مِنْهَا ليأخذها، فَقبض الصّديق على يَده وغمزها غمزة آلمته فَقَالَ:
يَا مسكرى بمدامــــة وَمن الْحَلَاوَة مَا نعى
حاولت إِصْبَع زَيْنَب فَكسرت خمس أَصَابِع (ثمار القلوب)
2. القطايف بماء الورد
قال أبو هلال العسكري” القطائفُ والواحدةُ قطيفةٌ، شبِّهتْ بالقطيفةِ الَّتِي تلبسُ، للعيونِ الَّتِي فيه”.(التلخيص في معرفة الاشياء). وأنشد :
كثيفةُ الحشو ولكنهـــــــــا رقيقةُ الجلدِ هوانيه
رشتْ بماء الوردِ أعطافُها منشورة الطيَ ومطويه
جاءَتْ من السكر فضـية وهي من الأدهان تبريه
قد وَهَبَ الليلُ لهــا بُردهُ وَوَهَبَ الخصبُ لها زيه (ديوان المعاني)
قال إبن سيرين” تأويل رؤية القطائف المحشوة هو مال ولذاذة وسرور”. (منتخب الكلام).
ومن مليح ما قيل في القطائف، قول علىّ بن يحيى بن أبى منصور المنجم:
قطائف قد حشيت باللّــــوز والسكر الماذىّ حشــو الموز
يسبح في آذىّ دهن الجوز سررت لما وقعت في حوزى
سرور عبّاس بقرب فوز ( زهر الآداب).
3. الكنافة
ويطلق احيانا عليها إختصارا (الكنا). قال الناظر المراكشي” بين صحراء لمتونة وبلاد السودان، مدينة أودغست ويجلب منها سودانيات طباخات محسنات، تباع الواحدة منهن بمائة دينار وأزيد، يحسنٌ عمل الأطعمة، ولا سيما أصناف الحلاوات مثل الجوزينقات، والوزينجات، والقاهريات، والكنافات والقطائف والمشهوات، وأصناف الحلاوات”. (الإستبصار).
قال جمال الدين بن نباتة:
قول وقد جاء الغـــــــلام بصحنه عقيب طعام الفطر يا غاية المنى
بعيشك قل لي جاء صحن قطائف وبح باسم من تهوى ودعني من الكنا (خزانة الأدب).
وكتب النصير الحمامي إلى الوراق ملغزاً في كنافة:
يا واحداً في عصره بمصره ومن له حسن السناء والسنا
تعرف لي اسماً فيه ذوق وذكا حلو المحيا والجنان والجنى
والحلّ والعقد له فـــــي دسته ومجلس الصدر وفي الصدر المنى
إن قيل يوماً هل لذاك كنية فقل لهم لم يخل يوماً من كنا
4. الزلابية
قال إبن سيرين” تأويل رؤية الزلابية نجاة من هم ومال وسرور بلهو وطرب”. (منتخب الكلام). قال أبو هلال العسكري” وقدْ جاءَ فِي بعضِ الأرَاجيزِ: كأنَ فِي داخلِهِ زلابيهْ”. (التلخيص في معرفة الاشياء). كما قال الأشجعي الأندلسي” رأى احدهم الزَّلابِية، فقال: ويلٌ لأمها الزانية، أبأحشائي نُسِجَتْ، أم من صِفاقِ قلبي أُلفت؟ فإني أجدُ مكانها من نفسي مكيناً، وحبل هواها على كبدي متيناً، فمن أين وصلت كفُّ طابخها إلى باطني، فاقتطعتها من دواجني”. (رسالة التوابع والزوابع). وكانت تُعمل على شكل شبابيك أيضا، كما يتبين من قول إبن الرومي.
رأيته سحرا يقلـــي زلابية في رقّة القشر والتجويف كالقصب
كأنما زيته المغليّ حين بدا كالكيمياء التي قالوا ولم تصب
يلقى العجين لجينا من أنامله فيستحيل شبابيكا من الذهب
(ديوان ابن الرومي). (كتاب المحاضرات والمحاورات)
وقال المقدسي عن أهل الشام” يسمّون من السكّر ناطقا ويصنعون زلابية في الشتاء من العجين غير مشبّكة”. (هامش أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم). ذكر الأبشيهي المثل” هانت الزلابية حتى أكلها بنو وائل”. (المستطرف)
5. حلوى الخبيص
تصنع من التمر والسمن.، قال شمس الدين المرداوي” َقَالَ السُّيُوطِيّ: أَوَّلُ مَنْ خَبَّصَ الْخَبِيصَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – خَلَطَ الْعَسَلَ وَالنَّقِيَّ مِنْ الدَّقِيقِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلَى مَنْزِلِ أُمِّ سَلَمَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: مَنْ بَعَثَ بِهَذَا؟ قَالُوا: عُثْمَانُ قَالَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ إنَّ عُثْمَانَ يَسْتَرْضِيك فَارْضَ عَنْهُ”.( غذاء الألباب).
6. حلاوة ومعجنات السنبوسج ( السنبوسة).
قال التيفاشي” سنبوسق محشو معطر وحلاوة ناشفة جعله في خريطة”. (نزهة الألباب). ملاحظة: السنبوسق هي فطائر مثلثة الشكل من رقائق العجين بالسمن وتحشى بالجوز والعسل (او اللحم) ،وربما منها اخذت كلمة السنبوسة او السمبوسة. والخريطة- وعاء من الجلد او نحوه يشد على ما فيه.
هذا جزء يسير من عشرات الأصناف من الحلوى، قال البغدادي” السنبوسج: يؤخذ اللحم الموصوف في عمل المقلوبة (اكلة المقلوبة)، ويقطع الخبز الرقيق المتخذ لذلك، ويُحشى باللحم المذكور بعد أن يقطع سيورا ويعمل مثلثا، ثم يلصق بيسير عجين، ويلقى في الشيرج (الزيت) ثم يرفع”. (كتاب الطبيخ). وكذلك ” يُحشى بالسكر واللوز المدقوقين ناعما، والمعجونين بماء الورد”. (المصدر السابق).
هناك الكثير من الأطعمة التي لها جذور تأريخية مثل الكباب قال الغزولي” الكباب: بفتح الكاف وهو اللحم المشروح وأجوده ما شرح اللحم شريحاً خفيفاً ونثر عليه الملح ونصب له مقلى على النار بلا دسم وطرح عليه وقلب من جنب إلى جنب حتى ينضج ويحمر هذا هو الكباب الخالص بعينه وهو الذي كان يعمل ليحيى بن خالد ولولده وفيه يقول أبو الفتح البستى:
عليك إذا أنجاب الدجى بكباب وعقبه مرتاحاً بكأس شراب
فلم يفتح الأقوام بابا إلى المنى كباب شراب أو كباب كباب
(مطالع البدور ومنازل السرور).
7. لقمة القاضي
قال البغدادي” هذا اللون يكون في عجينه قوة، وإذا أختمر، يؤخذ منه قدر البندقة، وتقلى بالضيرج، ثم تغمس في الجلاب (الشيرة)، ويُذر عليها السكر المدقوق (المطحون).
ومن المأكولات (الدجاج المحشي بالسكر والفستق)، قال محمد بن شاكر” كان يذبح في مطبخ الملك الناصر صاحب الشام كل يوم أربعمائة راس غنم سوى الدجاج والطيور والأجدية. وكان يبيع الغلمان من سماطه شي كثير عند باب القلعة بدمشق بأرخص الأثمان من المآكل الفاخرة. حكى علاء الدين بان نصر الله أن الناصر جاء إلى داره بغتة؛ قال: فمددت له شيئاً كثيراً في الوقت بالدجاج المحشي بالسكر والفستق وغيره، فقال: كيف تهيأ لك هذا؟ فقلت: هو من نعمتك، اشترتيه من باب القلعة”. ( فوات الوفيات). ومنها (المهلبية) قال الغزولي” المهلبية: أول من اتخذها بنو المهلب فنسبت إليهم وهي من الألوان المستحسنة المستلذة تنفع لحفظ الصحة واحمدها منفعة السلسلة والانعقاد بالدجاج الحديث السمان والعسل الخالص الذهبي والسكر النقي وهي معتدلة الحرارة والرطوبة تغدو غداء صالحاً إلا أنها مضرة بالصفراء وتدفع مضرتها بالحصرمية منه قبلها”.(مطالع البدور ومنازل السرور). و(تشريب الباقلاء بالزيت والنعناع)، قال ابن خلّاد في الباقلاء:
فلا تنسَ فضلَ الباقلاءِ فإنه من المنى قدوافي به الفضل في الزبر
إذا جعلوا فيه سذاباً ونعنعاً وجزءاً من الزَّيت المقدّس في الذَّك
(ديوان المعاني)
و(الهريسة بلحم الدجاج والبط)، قال ابن الرومي:
أيا هنتاهُ هل لك في هَريس بلحمانِ الفراخِ أو البطوطِ
أملّ الليلَ صانعها بضربٍ فجاء بها تمددُ كالخيوطِ
(ديوان المعاني)
ومن أغذية الفطور (الزيتون والجبن مع اللوز والجوز). قال جحظة:
ودنّر بالجوزِ أجوازه ودَرهمَ باللوز ما دَرهمه
وقابل زيتونها والجبن صفائح من بيضةٍ مدغمه
و(الأرز باللبن)، قال الغزولي” الأرز باللبن: قال محمد بن خرد كان كثير من رؤساء العراق يقدمون في أول الطعام الأرز باللبن والسكر المنخول ثم يتبعونه ما شاءوا إيثارا له على غيره وكان الحسن ابن سهل يفضله على كثير من المطعم ميلا إلى رأى المأمون فيه وقال له أنه يزيد في العمر يا أمير المؤمنين قال من أين قلت هذا قلت لأن الأطباء زعموا أن الأرز يولد أحلاماً صحيحة فإذا صحت الأحلام فهي من زيادة النوم على اليقظة لن النوم موت واليقظة حياة”.(مطالع البدور ومنازل السرور). و(الملوخيا)، قال الغزولي” الملوخيا: غليظة لزجة باردة كثيراً، الإكثار منها يضر بالمرطوبين والمبلغمين وإصلاح ضررها أن تطبخ بلحوم الغزلان لخفته وحرارته أو مع الحجل أو مع الفراخ النواهض أو الفراريج السرخسية فإن لم يتفق فتلقى فيها الشرايح الجافة المدخنة أو التنورية عند خروجها من التنور وكذلك الباذنجان المقلى يلقى عليها ويكمر ساعة ثم تؤكل وماء الليمون يلطف غلظها ويقطع بلزوجتها ولا يصلحها إصلاحاً تاماً”.(مطالع البدور ومنازل السرور). علاوة على ( الباجة والفصيد والصميد والكشكشية والمجدرة والترمس والنكوع) والعشرات غيرها، علما ان هذه المأكولات ترجع الى أكثر من ألف سنة، كما عرف العرب أنواع العصائر والتوابل وكانوا يستخدمونها كنكهة مع الطعام.
إذن! هل كان العرب يأكلون السحالي والجراد كما إدعى الفرس؟
للكلام بقية مع الجزء الثالث والأخير بعون الله.
علي الكاش